الحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على النَّبيِّ الأمين، وعلى آله الطَّيِّبين المنتَجَبين. أمَّا بعد:
غير خافٍ على ذي عينين ما آل إليه حال النَّاس من الفتنة بالدُّنيا، والهلكة في طلبها، والغفلة عن طلب الآخرة، والسَّعي لها سعيها.
ومن أراد التَّخلص من هذه الفتنة العمياء، والمحنة، النَّكراء؛ ليزكوا قلبه، وتشرق نفسه، فلينظر إلى معيشة النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- وهديه في التَّعامل مع المال، وتدبير أمور الحياة.
لقد علم النّبيُّ -صلّى الله عليه وسلّم- حقيقة الدُّنيا، فجعلها معبرًا للآخرة، وعاش فيها عَيْش الغريب وابن السَّبيل الَّذي هو في سيرٍ دائمٍ وسفرٍ متواصلٍ، لا يقرُّ له قرارٌ، ولا يستريح له بالٌ، حتَّى يصل إلى وطنه الحقيقي، في بلاد الأفراح، حيث الأنهار والجنان، والحور الحسان، وربٍّ راضٍ غير غضبانٍ.
إنَّه -صلَّى الله عليه وسلَّم- أعظم إنسانٍ عرف حقيقة الوجود، فماتت أغراضه، وسكنت اعتراضاته، فآثر في الدُّنيا عيش المساكين، يجوع يومًا فيصبر، ويشبع يومًا فيشكر.
فتح الله عليه الفتوح، وأجرى بين يديه كنوز الذَّهب والفضة، فأنفقها كلَّها في سبيل الله، ولم يجعل لنفسه منها شيئًا، بل ظلَّ على حاله من الرِّضى بالقليل، والقناعة باليسير حتَّى اختاره الله -تعالى- إلى جواره.
كان -صلَّى الله عليه وسلَّم- يعرف خطورة الفتنة بالدُّنيا فيقول: «اللهمَّ لا عيش الا عيش الآخرة» [متفقٌ عليه]. ولذلك فقد جعل الآخرة همَّه، وفرَّغ قلبه عن هموم الدُّنيا، فأتته الدُّنيا تركض، فكان يتحاشاها ويقول: «مالي وللدُّنيا» [صحَّحه الألباني 3283 في صحيح التَّرغيب].
وخاف النَّبيُّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- على أمته بسطة الدُّنيا فقال: «فوالله لا الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدُّنيا، كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، وتهلككم كما أهلكتهم» [متفقٌ عليه].
وبيَّن -عليه الصَّلاة والسَّلام- لأمَّته حقارة الدُّنيا فقال: «والله! ما الدُّنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه هذه -وأشار يحيى بالسَّبابة- في اليم. فلينظر بم يرجع؟» [رواه مسلم 2858].
ودخل -عليه الصلَّاة والسَّلام- السَّوق والنَّاس عل جانبيه فمر بجدي أسك -صغير الأذن- ميت، فتناوله، فأخذ بأذنه ثمَّ قال: «أيكم يحب أن هذا له بدرهم؟ فقالوا: ما نحبّ أنَّه لنا بشيءٍ. وما نصنع به؟ قال: أتحبون أنَّه لكم؟ قالوا: والله! لو كان حيًّا، كان عيبًا فيه، لأنَّه أسك. فكيف وهو ميت؟ فقال "فوالله! للدُّنيا أهون على الله، من هذا عليكم» [رواه مسلم 2957].
تلك نظرة النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- إلى الدُّنيا نظرةٌ ترتقي بالنَّفس الإنسانيَّة فوق حجب الشَّهوات الحسيَّة فتشرق بأنوار الهداية وتزكو بالتَّفرغ للعبادة والخدمة، وإذا نظرنا في واقع معيشة النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- علمنا أنَّه قد طبق تلك النَّظرة وعاشها واقعًا ملموسًا على الأرض.
قال عمرو بن الحارث أخو جويرية زوج النَّبيَّ -صلَّى الله عليه وسلَّم-: «ما ترك رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- عند موته درهمًا ولا دينارًا ولا عبدًا ولا أمة ولا شيئًا إلا بغلته البيضاء، وسلاحه، وأرضًا جعلها صدقةً» [رواه البخاري 2739].
وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: «توفي رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- وما في بيتي من شيءٍ يأكله ذو كبد، إلا شطر من شعير في رف لي، فأكلت منه حتَّى طال علي، فكلته ففني» [متفقٌ عليه]. قال التِّرمذي: "«شطر شعير» أي شيء من شعير".
وذكر عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- ما أصاب النَّاس من الدُّنيا فقال: «لقد رأيت رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم يظلّ اليوم يلتوي، ما يجد دقلًا يملأ به بطنه» [رواه مسلم 2978].
والدَّقل: هو رديء التَّمر.
فراشه -صلَّى الله عليه وسلَّم-
قالت عائشة -رضي الله عنها-: «كان فراش رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- من أدم -الجلد- وحشوه من ليف» [رواه البخاري 6456].
نام -صلَّى الله عليه وسلَّم- على حصيرٍ، فأثر في جنبه، فرآه ابن مسعود، فقال له: يا رسول الله! ألا آذنتنا، فنبسط تحتك ألين منه؟ فقال له -صلَّى الله عليه وسلَّم-: «ما لي وللدُّنيا وما أنا والدُّنيا إنَّما مثلي ومثل الدُّنيا كراكبٍ ظل تحت شجرة ثمَّ راح وتركها»[رواه أحمد 5/264، والألباني 438 في السِّلسلة الصَّحيحة وقال: حسنٌ صحيح].
قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: «دخلت على رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- وهو على حصير، قال: فجلست فإذا عليه إزار وليس عليه غيره وإذا الحصير قد أثر في جنبه، وإذا أنا بقبضة من شعير نحو الصَّاع وقرظ في ناحية في الغرفة وإذا إهاب معلق فابتدرت عيناي، فقال: «ما يبكيك يا ابن الخطاب؟»، فقلت: يا نبيَّ الله ومالي لا أبكي وهذا الحصير قد أثر في جنبك وهذه خزانتك لا أرى فيها إلا ما أرى وذلك كسرى وقيصر في الثَّمار والأنهار وأنت نبيَّ الله وصفوته وهذه خزانتك، قال: «يا ابن الخطاب ألا ترضى أن تكون لنا الآخرة ولهم الدنيا قلت بلى» [رواه ابن ماجه 3367 وحسَّنه الألباني].
لقد ضرب النَّبيُّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- المثل بنفسه، فكان يهرب هبات الملوك، ويعطي عطاء الواثق بربِّه، الَّذي لا يخشى الفقر، ثمَّ يرجع إلى داره، فإذا فراشه الحصير وطعامه خبز الشَّعير لم يقل -صلَّى الله عليه وسلَّم-: إنَّ الإمام ينبغي أن تكون له هيئة بين النَّاس وأبهة، حتَّى يعظم شأنه وتزداد هيبته، بل قال -عليه الصَّلاة والسَّلام-: «اللهمَّ! اجعل رزق آل محمَّدٍ قوتًا» [متفقٌ عليه].
والقوت هو ما يكف عن المسألة، ويقيم البدن دون الزَّيادة على ذلك.
ما جاء في ادِّخال النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم-
قال أنس -رضي الله عنه-: «كان النَّبيُّ -صلَّى الله عليه وسلَّم لا يدخر شيئًا لغدٍ» [رواه التِّرمذي 2362 وصحَّحه الألباني].
وأمَّا ما جاء في الصَّحيحين من حديث عمر -رضي الله عنه- أنَّ النَّبيَّ -صلَّى الله عليه وسلَّم-: «كان يبيع نخل بني النَّضير، ويحبس لأهله قوت سنتهم» [رواه البخاري 5357] فهذا حقُّ أهله في النَّفقة، وكان -صلَّى الله عليه وسلَّم أعدل النَّاس، وهو القائل -عليه الصَّلاة والسَّلام-: «كفى بالمرء إثمًا أن يضيع من يقوت» [رواه أبو داود 1692 وحسَّنه الألباني].
والقائل: «كفى بالمرء إثمًا أن يحبس عمَّن يملك قوته» [رواه مسلم 996].
ولكنَّ الدَّلائل تدلُّ على أنَّ النَّبيَّ -صلّى الله عليه وسلَّم- وأهل بيته كانوا ينفقون هذا القوت في سبيل الله ولا يدخروا منه شيئًا.
قال ابن حجر: "ومع كونه -صلَّى الله عليه وسلَّم- كان يحتبس قوته سنة لعياله، فكان في طول السَّنة ربما استجرّه منهم لمن يردُ عليه ويعوضهم عنه، ولذلك مات -عليه الصَّلاة والسَّلام- ودرعه مرهونةٌ على شعيرٍ اقترضه قوتًا لأهله" (فتح: 9\414).
وممَّا يدلُّ على ذلك: حديث أبي هريرة قال: «جاء رجل إلى رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- قال: إنِّي مجهود، فأرسل إلى بعض نسائه، فقالت: والَّذي بعثك بالحقِّ! ما عندي إلا ماء. ثمَّ أرسل إلى أخرى. فقالت مثل ذلك. حتى قلن كلهنَّ مثل ذلك: لا. والَّذي بعثك بالحقِّ! ما عندي إلا ماء» [رواه مسلم 2054].
فهذه بيوت أزواج النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- كلُّها لا يوجد فيها طعامٌ لرجلٍ واحدٍ، ممَّا يدلُّ على أنَّ هذا القوت الَّذي كان يدخره -عليه الصَّلاة والسَّلام- لأهله، كان ينفق أيضًا في سبيل الله، وبذلك تأتلف الأدلَّة ولا تتعارض، قال النَّووي: "هذا الحديث مشتملٌ على فوائدَ كثيرةٍ منها: ما كان عليه النَّبيَّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- وأهل بيته من الزُّهد في الدُّنيا، والصَّبر على الجوع وضيق حال الدُّنيا" (شرح مسلم: 13/240).
طعام النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم-
كان النَّبيُّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- هينَ المؤونة، وكان يأكل من الطَّعام ما حضر فلا يرد موجودًا، ولا يتكلف مفقودًا، وكان يأكل اللحم والإدام والخبز وغير أنَّ أغلب حاله -عليه الصَّلاة والسَّلام- الزّهد وعدم الشَّبع؛ لأنَّه -عليه الصَّلاة والسَّلام- كان ينفق ماله كلَّه في سبيل الله، حتَّى أنَّه -صلَّى الله عليه وسلَّم- كان أجود بالخير من الرِّيح المرسلة ولذلك كان كثيرًا ما يبقى بلا مالٍ ولا طعامٍ ولا شيءٍ.
تراه إذا ما جئته متهللًا***كأنك تعطيه الَّذي أنت سائله
ولو لم يكن في كفِّه غير نفسه***لجاد بها فيتق الله سائله
عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: «ما شبع آل محمَّدٍ -صلَّى الله عليه وسلَّم- من خبز شعير يومين متتابعين حتَّى قُبض رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم-» [متفقٌ عليه].
وعن عروة عن عائشة -رضي الله عنها- أنَّها كانت تقول: "والله يا ابن أختي إن كنا لننظر إلى الهلال، ثمَّ الهلال ثمَّ الهلال، ثلاثة أهلة في شهرين، وما أوقد في أبيات رسول الله -عليه الصَّلاة والسَّلام- نار!"
قال عروة: يا خالة! فما كان يعيشكم؟
قالت: الأسودان: التَّمر والماء. إلا أنَّه قد كان لرسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- جيران من الأنصار وكانت لهم منائح وكانوا يرسلون إلى رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- فيسقينا!
فهذا رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم-، سيِّد الأولين والآخرين، الَّذي أبى أن تحول له جبال مكة ذهبًا، ليكن عبدًا رسولًا؛ لا يوجد في بيته شربة لبن، حتَّى يهديها له بعض جيرانه من الأنصار فيسقي أهله منها! رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- كما قال عنه أنس: «لم يأكل النَّبيُّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- على خوان حتَّى مات، وما أكل خبزا مرققًا حتَّى مات» [رواه البخاري 6450].
رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- لم ير الخبز الأبيض حتَّى مات.
فقد قال سهل بن سعد -رضي الله عنه-: «ما رأى رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم-النّقي من حين ابتعثه الله -تعالى- حتَّى قبضه".
فقيل له: هل كان لكم في عهد رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- مناخل؟ قال: ما رأى رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- منخلًا من حين ابتعثه الله -تعالى- حتَّى قبضه. فقيل له: كيف كنتم تأكلون الشَّعير غير منخول؟ قال: كنا نطحنه وننفخه، فيطير ما طار، وما بقي ثريناه -بللناه وعجناه-» [رواه البخاري 5413].
وعن أنس -رضي الله عنه- قال: ولقد رهن النَّبيُّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- درعه بشعيرٍ، ومشيت إلى النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- بخبز شعير وإهالة سنحة -شحم متغير الرَّائحة- ولقد سمعته يقول: «ما أصبح لآل محمَّدٍ -صلَّى الله عليه وسلَّم- إلا صاع ولا أمسى» وإنَّهم لتسعة أبيات [رواه البخاري].
وعن عتبة بن غزوان -رضي الله عنه- قال: «لقد رأيتني سابع سبعة مع رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- ما طعامنا إلا ورق الحبلة -ثمر السّمر- حتَّى قَرِحت -تجرحت أفواهنا- أشداقنا» [رواه مسلم].
وعن جابر -رضي الله عنه- أنَّ رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- سأل أهله الإدام. فقالوا: ما عندنا إلا الخل. فدعا به، فجعل يأكل ويقول: «فإنَّ الخل نعم الأدم» [رواه مسلم 2052] قال جابر: فما زلت أحب الخل منذ سمعتها من نبي الله -صلَّى الله عليه وسلَّم-.
جوع النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم-
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: خرج رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- ذات يومٍ أو ليلةٍ، فإذا هو بأبي بكر وعمر -رضي الله عنهما- فقال: «ما أخرجكما من بيوتكما هذه السَّاعة؟ قالا: الجوع، يا رسول الله! قال: وأنا، والَّذي نفسي بيده! لأخرجني الَّذي أخرجكما. قوموا، فقاموا معه، فأتى رجلًا من الأنصار، فإذا هو ليس في بيته، فلمَّا رأته المرأة قالت: مرحبًا! وأهلًا! فقال لها رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم-: أين فلان؟ قالت: ذهب يستعذب لنا من الماء، إذ جاء الأنصاري فنظر إلى رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- وصاحبيه. ثمَّ قال: الحمد لله. ما أحد اليوم أكرم أضيافا منِّي. قال فانطلق فجاءهم بعذق فيه بسر وتمر ورطب. فقال: كلوا من هذه، وأخذ المدية، فقال له رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم-: إيَّاك! والحلوب، فذبح لهم. فأكلوا من الشَّاة. ومن ذلك العذق، وشربوا، فلمَّا أن شبعوا ورووا، قال رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- لأبي بكر وعمر: والَّذي نفسي بيده! لتسألنَّ عن هذا النَّعيم يوم القيامة أخرجكم من بيوتكم الجوع ثمَّ لم ترجعوا حتَّى أصابكم هذا النَّعيم» [رواه مسلم 2038].
وعن أنس -رضي الله عنه- قال: قال أبو طالحة لأم سليم: لقد سمعت صوت رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم ضعيفًا، أعرف فيه الجوع، فهل عندك من شيء؟ فأخرجت أقراصًا من شعيرٍ، ثمَّ أخرجت خمارًا لها، فلفت الخبز ببعضه، ثمَّ دسته تحت ثوبي، وردتني ببعضه ثمَّ أرسلتني إلى رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم-، قال: فذهبت به، فوجدت رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- في المسجد ومعه النَّاس، فقمت عليهم، فقال لي رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم-: «أرسلك أبو طلحة». فقلت: نعم، قال: «بطعامٍ». قال: فقلت: نعم، فقال رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- لمن معه: «قوموا». فانطلق وانطلقت بين أيديهم، حتَّى جئت أبا طلحة، فقال أبو طلحة: يا أم سليم ، قد جاء رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم بالنَّاس، وليس عندنا من الطَّعام ما نطعمهم، فقالت: الله ورسوله أعلم، قال: فانطلق أبو طلحة حتَّى لقي رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم-، فأقبل أبو طلحة ورسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- حتَّى دخلا، فقال رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم-: «هلمي يا أم سليم، ما عندك». فأتت بذلك الخبز، فأمر به ففت، وعصرت أم سليم عكة لها فأدمته، ثمَّ قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله أن يقول ، ثم قال : «ائذن لعشرة». فأذن لهم، فأكلوا حتَّى شبعوا، ثمَّ خرجوا، ثمَّ قال: «ائذن لعشرة». فأذن لهم فأكلوا حتَّى شبعوا ثمَّ خرجوا، ثمَّ قال: «ائذن لعشرة». فأذن لهم فأكلوا حتَّى شبعوا ثمَّ خرجوا، ثمَّ أذن لعشرة فأكل القوم كلهم وشبعوا، والقوم ثمانون رجلًا»[متفقٌ عليه].
-هكذا- أخي الكريم كانت معيشة النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- وأصحابه الكرام وهكذا وصل إلينا هذا الدِّين العظيم على جسور من التَّضحيات والآلام والدِّماء والأشواك، عبر بطونٍ خاويةٍ وقلوبٍ طاهرةٍ، ونفوسٍ مشرقةٍ، فقبيح بنا أن نضيع أمانة هذا الدِّين، أو نفرط في مسؤولية الدَّعوة والبلاغ؛ بالرُّكون إلى الدُّنيا، والانغماس في شهواتها وملذاتها، والغفلة عن هدي النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- في ترك التَّعلق بالدُّنيا وجعلها مزرعة للآخرة. فهذا -والله- من أعظم أسباب ضعف الأمَّة وتخلِّفها وتسلُّط الأعداء عليها كما قال النَّبيُّ -صلَّى الله عليه وسلَّم-: «يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها». فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: «بل أنتم يومئذٍ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السَّيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن». فقال قائلٌ: يا رسول الله! وما الوهن؟ قال: حب الدُّنيا وكراهية الموت» [رواه أبو داود وصححه الألباني].
خالد أبو صالح
دار الوطن
غير خافٍ على ذي عينين ما آل إليه حال النَّاس من الفتنة بالدُّنيا، والهلكة في طلبها، والغفلة عن طلب الآخرة، والسَّعي لها سعيها.
ومن أراد التَّخلص من هذه الفتنة العمياء، والمحنة، النَّكراء؛ ليزكوا قلبه، وتشرق نفسه، فلينظر إلى معيشة النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- وهديه في التَّعامل مع المال، وتدبير أمور الحياة.
لقد علم النّبيُّ -صلّى الله عليه وسلّم- حقيقة الدُّنيا، فجعلها معبرًا للآخرة، وعاش فيها عَيْش الغريب وابن السَّبيل الَّذي هو في سيرٍ دائمٍ وسفرٍ متواصلٍ، لا يقرُّ له قرارٌ، ولا يستريح له بالٌ، حتَّى يصل إلى وطنه الحقيقي، في بلاد الأفراح، حيث الأنهار والجنان، والحور الحسان، وربٍّ راضٍ غير غضبانٍ.
إنَّه -صلَّى الله عليه وسلَّم- أعظم إنسانٍ عرف حقيقة الوجود، فماتت أغراضه، وسكنت اعتراضاته، فآثر في الدُّنيا عيش المساكين، يجوع يومًا فيصبر، ويشبع يومًا فيشكر.
فتح الله عليه الفتوح، وأجرى بين يديه كنوز الذَّهب والفضة، فأنفقها كلَّها في سبيل الله، ولم يجعل لنفسه منها شيئًا، بل ظلَّ على حاله من الرِّضى بالقليل، والقناعة باليسير حتَّى اختاره الله -تعالى- إلى جواره.
كان -صلَّى الله عليه وسلَّم- يعرف خطورة الفتنة بالدُّنيا فيقول: «اللهمَّ لا عيش الا عيش الآخرة» [متفقٌ عليه]. ولذلك فقد جعل الآخرة همَّه، وفرَّغ قلبه عن هموم الدُّنيا، فأتته الدُّنيا تركض، فكان يتحاشاها ويقول: «مالي وللدُّنيا» [صحَّحه الألباني 3283 في صحيح التَّرغيب].
وخاف النَّبيُّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- على أمته بسطة الدُّنيا فقال: «فوالله لا الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدُّنيا، كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، وتهلككم كما أهلكتهم» [متفقٌ عليه].
وبيَّن -عليه الصَّلاة والسَّلام- لأمَّته حقارة الدُّنيا فقال: «والله! ما الدُّنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه هذه -وأشار يحيى بالسَّبابة- في اليم. فلينظر بم يرجع؟» [رواه مسلم 2858].
ودخل -عليه الصلَّاة والسَّلام- السَّوق والنَّاس عل جانبيه فمر بجدي أسك -صغير الأذن- ميت، فتناوله، فأخذ بأذنه ثمَّ قال: «أيكم يحب أن هذا له بدرهم؟ فقالوا: ما نحبّ أنَّه لنا بشيءٍ. وما نصنع به؟ قال: أتحبون أنَّه لكم؟ قالوا: والله! لو كان حيًّا، كان عيبًا فيه، لأنَّه أسك. فكيف وهو ميت؟ فقال "فوالله! للدُّنيا أهون على الله، من هذا عليكم» [رواه مسلم 2957].
تلك نظرة النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- إلى الدُّنيا نظرةٌ ترتقي بالنَّفس الإنسانيَّة فوق حجب الشَّهوات الحسيَّة فتشرق بأنوار الهداية وتزكو بالتَّفرغ للعبادة والخدمة، وإذا نظرنا في واقع معيشة النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- علمنا أنَّه قد طبق تلك النَّظرة وعاشها واقعًا ملموسًا على الأرض.
قال عمرو بن الحارث أخو جويرية زوج النَّبيَّ -صلَّى الله عليه وسلَّم-: «ما ترك رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- عند موته درهمًا ولا دينارًا ولا عبدًا ولا أمة ولا شيئًا إلا بغلته البيضاء، وسلاحه، وأرضًا جعلها صدقةً» [رواه البخاري 2739].
وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: «توفي رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- وما في بيتي من شيءٍ يأكله ذو كبد، إلا شطر من شعير في رف لي، فأكلت منه حتَّى طال علي، فكلته ففني» [متفقٌ عليه]. قال التِّرمذي: "«شطر شعير» أي شيء من شعير".
وذكر عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- ما أصاب النَّاس من الدُّنيا فقال: «لقد رأيت رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم يظلّ اليوم يلتوي، ما يجد دقلًا يملأ به بطنه» [رواه مسلم 2978].
والدَّقل: هو رديء التَّمر.
فراشه -صلَّى الله عليه وسلَّم-
قالت عائشة -رضي الله عنها-: «كان فراش رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- من أدم -الجلد- وحشوه من ليف» [رواه البخاري 6456].
نام -صلَّى الله عليه وسلَّم- على حصيرٍ، فأثر في جنبه، فرآه ابن مسعود، فقال له: يا رسول الله! ألا آذنتنا، فنبسط تحتك ألين منه؟ فقال له -صلَّى الله عليه وسلَّم-: «ما لي وللدُّنيا وما أنا والدُّنيا إنَّما مثلي ومثل الدُّنيا كراكبٍ ظل تحت شجرة ثمَّ راح وتركها»[رواه أحمد 5/264، والألباني 438 في السِّلسلة الصَّحيحة وقال: حسنٌ صحيح].
قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: «دخلت على رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- وهو على حصير، قال: فجلست فإذا عليه إزار وليس عليه غيره وإذا الحصير قد أثر في جنبه، وإذا أنا بقبضة من شعير نحو الصَّاع وقرظ في ناحية في الغرفة وإذا إهاب معلق فابتدرت عيناي، فقال: «ما يبكيك يا ابن الخطاب؟»، فقلت: يا نبيَّ الله ومالي لا أبكي وهذا الحصير قد أثر في جنبك وهذه خزانتك لا أرى فيها إلا ما أرى وذلك كسرى وقيصر في الثَّمار والأنهار وأنت نبيَّ الله وصفوته وهذه خزانتك، قال: «يا ابن الخطاب ألا ترضى أن تكون لنا الآخرة ولهم الدنيا قلت بلى» [رواه ابن ماجه 3367 وحسَّنه الألباني].
لقد ضرب النَّبيُّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- المثل بنفسه، فكان يهرب هبات الملوك، ويعطي عطاء الواثق بربِّه، الَّذي لا يخشى الفقر، ثمَّ يرجع إلى داره، فإذا فراشه الحصير وطعامه خبز الشَّعير لم يقل -صلَّى الله عليه وسلَّم-: إنَّ الإمام ينبغي أن تكون له هيئة بين النَّاس وأبهة، حتَّى يعظم شأنه وتزداد هيبته، بل قال -عليه الصَّلاة والسَّلام-: «اللهمَّ! اجعل رزق آل محمَّدٍ قوتًا» [متفقٌ عليه].
والقوت هو ما يكف عن المسألة، ويقيم البدن دون الزَّيادة على ذلك.
ما جاء في ادِّخال النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم-
قال أنس -رضي الله عنه-: «كان النَّبيُّ -صلَّى الله عليه وسلَّم لا يدخر شيئًا لغدٍ» [رواه التِّرمذي 2362 وصحَّحه الألباني].
وأمَّا ما جاء في الصَّحيحين من حديث عمر -رضي الله عنه- أنَّ النَّبيَّ -صلَّى الله عليه وسلَّم-: «كان يبيع نخل بني النَّضير، ويحبس لأهله قوت سنتهم» [رواه البخاري 5357] فهذا حقُّ أهله في النَّفقة، وكان -صلَّى الله عليه وسلَّم أعدل النَّاس، وهو القائل -عليه الصَّلاة والسَّلام-: «كفى بالمرء إثمًا أن يضيع من يقوت» [رواه أبو داود 1692 وحسَّنه الألباني].
والقائل: «كفى بالمرء إثمًا أن يحبس عمَّن يملك قوته» [رواه مسلم 996].
ولكنَّ الدَّلائل تدلُّ على أنَّ النَّبيَّ -صلّى الله عليه وسلَّم- وأهل بيته كانوا ينفقون هذا القوت في سبيل الله ولا يدخروا منه شيئًا.
قال ابن حجر: "ومع كونه -صلَّى الله عليه وسلَّم- كان يحتبس قوته سنة لعياله، فكان في طول السَّنة ربما استجرّه منهم لمن يردُ عليه ويعوضهم عنه، ولذلك مات -عليه الصَّلاة والسَّلام- ودرعه مرهونةٌ على شعيرٍ اقترضه قوتًا لأهله" (فتح: 9\414).
وممَّا يدلُّ على ذلك: حديث أبي هريرة قال: «جاء رجل إلى رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- قال: إنِّي مجهود، فأرسل إلى بعض نسائه، فقالت: والَّذي بعثك بالحقِّ! ما عندي إلا ماء. ثمَّ أرسل إلى أخرى. فقالت مثل ذلك. حتى قلن كلهنَّ مثل ذلك: لا. والَّذي بعثك بالحقِّ! ما عندي إلا ماء» [رواه مسلم 2054].
فهذه بيوت أزواج النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- كلُّها لا يوجد فيها طعامٌ لرجلٍ واحدٍ، ممَّا يدلُّ على أنَّ هذا القوت الَّذي كان يدخره -عليه الصَّلاة والسَّلام- لأهله، كان ينفق أيضًا في سبيل الله، وبذلك تأتلف الأدلَّة ولا تتعارض، قال النَّووي: "هذا الحديث مشتملٌ على فوائدَ كثيرةٍ منها: ما كان عليه النَّبيَّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- وأهل بيته من الزُّهد في الدُّنيا، والصَّبر على الجوع وضيق حال الدُّنيا" (شرح مسلم: 13/240).
طعام النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم-
كان النَّبيُّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- هينَ المؤونة، وكان يأكل من الطَّعام ما حضر فلا يرد موجودًا، ولا يتكلف مفقودًا، وكان يأكل اللحم والإدام والخبز وغير أنَّ أغلب حاله -عليه الصَّلاة والسَّلام- الزّهد وعدم الشَّبع؛ لأنَّه -عليه الصَّلاة والسَّلام- كان ينفق ماله كلَّه في سبيل الله، حتَّى أنَّه -صلَّى الله عليه وسلَّم- كان أجود بالخير من الرِّيح المرسلة ولذلك كان كثيرًا ما يبقى بلا مالٍ ولا طعامٍ ولا شيءٍ.
تراه إذا ما جئته متهللًا***كأنك تعطيه الَّذي أنت سائله
ولو لم يكن في كفِّه غير نفسه***لجاد بها فيتق الله سائله
عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: «ما شبع آل محمَّدٍ -صلَّى الله عليه وسلَّم- من خبز شعير يومين متتابعين حتَّى قُبض رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم-» [متفقٌ عليه].
وعن عروة عن عائشة -رضي الله عنها- أنَّها كانت تقول: "والله يا ابن أختي إن كنا لننظر إلى الهلال، ثمَّ الهلال ثمَّ الهلال، ثلاثة أهلة في شهرين، وما أوقد في أبيات رسول الله -عليه الصَّلاة والسَّلام- نار!"
قال عروة: يا خالة! فما كان يعيشكم؟
قالت: الأسودان: التَّمر والماء. إلا أنَّه قد كان لرسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- جيران من الأنصار وكانت لهم منائح وكانوا يرسلون إلى رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- فيسقينا!
فهذا رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم-، سيِّد الأولين والآخرين، الَّذي أبى أن تحول له جبال مكة ذهبًا، ليكن عبدًا رسولًا؛ لا يوجد في بيته شربة لبن، حتَّى يهديها له بعض جيرانه من الأنصار فيسقي أهله منها! رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- كما قال عنه أنس: «لم يأكل النَّبيُّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- على خوان حتَّى مات، وما أكل خبزا مرققًا حتَّى مات» [رواه البخاري 6450].
رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- لم ير الخبز الأبيض حتَّى مات.
فقد قال سهل بن سعد -رضي الله عنه-: «ما رأى رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم-النّقي من حين ابتعثه الله -تعالى- حتَّى قبضه".
فقيل له: هل كان لكم في عهد رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- مناخل؟ قال: ما رأى رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- منخلًا من حين ابتعثه الله -تعالى- حتَّى قبضه. فقيل له: كيف كنتم تأكلون الشَّعير غير منخول؟ قال: كنا نطحنه وننفخه، فيطير ما طار، وما بقي ثريناه -بللناه وعجناه-» [رواه البخاري 5413].
وعن أنس -رضي الله عنه- قال: ولقد رهن النَّبيُّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- درعه بشعيرٍ، ومشيت إلى النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- بخبز شعير وإهالة سنحة -شحم متغير الرَّائحة- ولقد سمعته يقول: «ما أصبح لآل محمَّدٍ -صلَّى الله عليه وسلَّم- إلا صاع ولا أمسى» وإنَّهم لتسعة أبيات [رواه البخاري].
وعن عتبة بن غزوان -رضي الله عنه- قال: «لقد رأيتني سابع سبعة مع رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- ما طعامنا إلا ورق الحبلة -ثمر السّمر- حتَّى قَرِحت -تجرحت أفواهنا- أشداقنا» [رواه مسلم].
وعن جابر -رضي الله عنه- أنَّ رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- سأل أهله الإدام. فقالوا: ما عندنا إلا الخل. فدعا به، فجعل يأكل ويقول: «فإنَّ الخل نعم الأدم» [رواه مسلم 2052] قال جابر: فما زلت أحب الخل منذ سمعتها من نبي الله -صلَّى الله عليه وسلَّم-.
جوع النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم-
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: خرج رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- ذات يومٍ أو ليلةٍ، فإذا هو بأبي بكر وعمر -رضي الله عنهما- فقال: «ما أخرجكما من بيوتكما هذه السَّاعة؟ قالا: الجوع، يا رسول الله! قال: وأنا، والَّذي نفسي بيده! لأخرجني الَّذي أخرجكما. قوموا، فقاموا معه، فأتى رجلًا من الأنصار، فإذا هو ليس في بيته، فلمَّا رأته المرأة قالت: مرحبًا! وأهلًا! فقال لها رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم-: أين فلان؟ قالت: ذهب يستعذب لنا من الماء، إذ جاء الأنصاري فنظر إلى رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- وصاحبيه. ثمَّ قال: الحمد لله. ما أحد اليوم أكرم أضيافا منِّي. قال فانطلق فجاءهم بعذق فيه بسر وتمر ورطب. فقال: كلوا من هذه، وأخذ المدية، فقال له رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم-: إيَّاك! والحلوب، فذبح لهم. فأكلوا من الشَّاة. ومن ذلك العذق، وشربوا، فلمَّا أن شبعوا ورووا، قال رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- لأبي بكر وعمر: والَّذي نفسي بيده! لتسألنَّ عن هذا النَّعيم يوم القيامة أخرجكم من بيوتكم الجوع ثمَّ لم ترجعوا حتَّى أصابكم هذا النَّعيم» [رواه مسلم 2038].
وعن أنس -رضي الله عنه- قال: قال أبو طالحة لأم سليم: لقد سمعت صوت رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم ضعيفًا، أعرف فيه الجوع، فهل عندك من شيء؟ فأخرجت أقراصًا من شعيرٍ، ثمَّ أخرجت خمارًا لها، فلفت الخبز ببعضه، ثمَّ دسته تحت ثوبي، وردتني ببعضه ثمَّ أرسلتني إلى رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم-، قال: فذهبت به، فوجدت رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- في المسجد ومعه النَّاس، فقمت عليهم، فقال لي رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم-: «أرسلك أبو طلحة». فقلت: نعم، قال: «بطعامٍ». قال: فقلت: نعم، فقال رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- لمن معه: «قوموا». فانطلق وانطلقت بين أيديهم، حتَّى جئت أبا طلحة، فقال أبو طلحة: يا أم سليم ، قد جاء رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم بالنَّاس، وليس عندنا من الطَّعام ما نطعمهم، فقالت: الله ورسوله أعلم، قال: فانطلق أبو طلحة حتَّى لقي رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم-، فأقبل أبو طلحة ورسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- حتَّى دخلا، فقال رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم-: «هلمي يا أم سليم، ما عندك». فأتت بذلك الخبز، فأمر به ففت، وعصرت أم سليم عكة لها فأدمته، ثمَّ قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله أن يقول ، ثم قال : «ائذن لعشرة». فأذن لهم، فأكلوا حتَّى شبعوا، ثمَّ خرجوا، ثمَّ قال: «ائذن لعشرة». فأذن لهم فأكلوا حتَّى شبعوا ثمَّ خرجوا، ثمَّ قال: «ائذن لعشرة». فأذن لهم فأكلوا حتَّى شبعوا ثمَّ خرجوا، ثمَّ أذن لعشرة فأكل القوم كلهم وشبعوا، والقوم ثمانون رجلًا»[متفقٌ عليه].
-هكذا- أخي الكريم كانت معيشة النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- وأصحابه الكرام وهكذا وصل إلينا هذا الدِّين العظيم على جسور من التَّضحيات والآلام والدِّماء والأشواك، عبر بطونٍ خاويةٍ وقلوبٍ طاهرةٍ، ونفوسٍ مشرقةٍ، فقبيح بنا أن نضيع أمانة هذا الدِّين، أو نفرط في مسؤولية الدَّعوة والبلاغ؛ بالرُّكون إلى الدُّنيا، والانغماس في شهواتها وملذاتها، والغفلة عن هدي النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- في ترك التَّعلق بالدُّنيا وجعلها مزرعة للآخرة. فهذا -والله- من أعظم أسباب ضعف الأمَّة وتخلِّفها وتسلُّط الأعداء عليها كما قال النَّبيُّ -صلَّى الله عليه وسلَّم-: «يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها». فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: «بل أنتم يومئذٍ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السَّيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن». فقال قائلٌ: يا رسول الله! وما الوهن؟ قال: حب الدُّنيا وكراهية الموت» [رواه أبو داود وصححه الألباني].
خالد أبو صالح
دار الوطن
0 تعليقات:
إرسال تعليق