بسم الله الرحمن الرحيم فرار طاغية تونس.. دروس وتنبيهات
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد؛ فقبل سنتين قابلت أحد الإخوة وكان الهمُّ يعلوه، رأيته حزيناً كئيباً، فسألته عن حاله، فأخبرني بأن أخته سافرت إلى زوجها في تونس، فلما هاتفها للاطمئنان على حالها أخبرته بأنهم لا يستطيعون أن يصلُّوا الفجر في وقته إلا على ضوء الشموع! فسألها متعجباً: لماذا؟ فأخبرته بأنَّ من تضيء الأنوارُ بيته في وقت الفجر يقبض عليه؛ لأنه يصلي الفجر في وقته، وهذا دليل على الإرهاب والتطرف. وحدثني أحد مشايخنا في هذه البلاد قبل أيام بأنَّ صديقاً له كان في تونس، فلما جاء وقت الظهر ذهبوا إلى المسجد للصلاة، ففوجئ بأن المسجد مغلق، ولا يفتح لصلاتي الظهر والعصر إلا عند الثالثة إلا ربعاً، فيرفع النداء للظهر عند الثالثة إلا عشراً، لتقام صلاة الظهر عند الثالثة إلا خمس دقائق، ثم انتهت الصلاة عند الثالثة وعندها أقيمت صلاة العصر، فصلى الناس العصر وعند الثالثة وعشر دقائق أُغلق المسجد. ومن جميل ما وقفت عليه بالأمس من أخبار: عودة الأذان للظهور مرة أخرى في التلفاز الرسمي التونسي بعدما كان محرماً بثُّ الأذان طوال فترة حكم الرئيس الهارب زين العابدين بن علي. وقامت قناة الرسمية، بقطع النشرة الإخبارية لبث الأذان، وقد اشتُهر عهد الرئيس المخلوع بعدم بث الأذان نهائيًا في التلفاز الرسمي، كما اشتهر بمعاداته للحجاب ومضايقاته لإقامة الصلاة بالمساجد، والصلاة هناك بالبطاقة الممغنطة. وفي شوال للعام 1427هـ عندما عاود المناوئون للإسلام حربهم على الحجاب في وسائل الإعلام، وكثر فيها من يقول بأن الحجاب عادة وليس بعبادة، وكانوا يذكرون من التعليلات ما يضحك الثكلى. عندما عاودت هذه الدعوات ظهورها تجرأت تونس على ما لم تتجرأ عليه فرنسا رافعة لواء الحرب على الحجاب، ففرنسا منعت الحجاب من الجامعات ودور التعليم، أما تونس فمنعته من الشارع العام، ووصل الأمر بالحكومة التونسية إلى مداهمة مسجد من المساجد بعد صلاة الجمعة حيث احتجزوا المحجبات، ورفضوا إطلاق سراحهن إلا بعد تعهُّدهن بعدم لبسه. لقد سمع العالم كلُّه بفرار طاغية من الطغاة الظالمين، أعني حاكم تونس السابق –عامله الله بعدله- وقد رأيت أنه لابد من وقفات مع هذا الحدث..
الوقفة الأولى: رسالة إلى الحكام الظالمين، والطغاة الجاثمين على صدور شعوبهم }وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ{ [البقرة/270]. فطاغية تونس كان جاثماً على صدر شعبه ثلاثاً وعشرين سنة، ثم كان الهوان والإذلال من الله، ما أغنت عنه أجهزة أمنه ولا جيشه ولا مؤسسات جنده من الله شيئاً. فمهما طال عبث الطغاة فلابد أن تنالهم عقوبة الله. ثبت في صحيح البخاري عن أبي موسى t قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته» قال ثم قرأ: }وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ{ [هود/102]. فكم من حاكمٍ تجبر وطغى وأبى وعتا وبغى، فلما أخذه الله جعله عبرة للناس، فكان عاقبة أمره خسراً. ولعذاب الآخرة أشد وأبقى، وأخزى وأنكى، قال تعالى: }وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ{ [إبراهيم/42]. قال ابن تيمية رحمه الله: "ولهذا يُروى: إن الله لينصر الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا ينصر الدولة الظالمة وإن كانت مؤمنة"([1]). والظالم لا نصير له، قال تعالى: }وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ{ [البقرة/270]، وقال: }وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ{ [الحج/71] ما لهم نصير يمنع عنهم عذاب الله. وهل أدل على هذا مما حدث بتونس؟! ذكر ابن كثير في تاريخه: أن وزير الرشيد يحيى البُرْمكي قال له بعض بنيه وهم في السجن والقيود: يا أبت أبعد الأمر والنهي والنعمة، صرنا إلى هذه الحال؟ فقال يا بني لعلَّها دعوةُ مظلوم سرت بليل"([2]). والظالم ينال عقابه في الدنيا قبل الآخرة: فعن أَبِي بَكْرَةَ t قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْ ذَنْبٍ أَجْدَرُ أَنْ يُعَجِّلَ الله تَعَالَى لِصَاحِبِهِ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا مَعَ مَا يَدَّخِرُ لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِثْلُ الْبَغْيِ وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ» رواه أبو داود والترمذي. مرَّ رجلٌ برجلٍ قد صلبه الحجاج، فقال: يا رب إن حِلمك على الظالمين قد أضرَّ بالمظلومين، فنام تلك الليلة، فرأى في منامه أن القيامة قد قامت، وكأنه قد دخل الجنة، فرأى ذلك المصلوب في أعلى عليين، وإذا منادٍ ينادي، حلمي على الظالمين أحلَّ المظلومين في أعلى عليين. وثبت عن أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ t قَالَ: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَتَقَاضَاهُ دَيْنًا كَانَ عَلَيْهِ، فَاشْتَدَّ عَلَيْهِ حَتَّى قَالَ لَهُ: أُحَرِّجُ عَلَيْكَ إِلَّا قَضَيْتَنِي. فَانْتَهَرَهُ أَصْحَابُهُ، وَقَالُوا: وَيْحَكَ تَدْرِي مَنْ تُكَلِّمُ؟ قَالَ: إِنِّي أَطْلُبُ حَقِّي. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «هَلَّا مَعَ صَاحِبِ الْحَقِّ كُنْتُمْ»! ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى خَوْلَةَ بِنْتِ قَيْسٍ فَقَالَ لَهَا: «إِنْ كَانَ عِنْدَكِ تَمْرٌ فَأَقْرِضِينَا حَتَّى يَأْتِيَنَا تَمْرُنَا فَنَقْضِيَكِ». فَقَالَتْ: نَعَمْ بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ الله. قَالَ: فَأَقْرَضَتْهُ، فَقَضَى الْأَعْرَابِيَّ وَأَطْعَمَهُ، فَقَالَ: أَوْفَيْتَ، أَوْفَى اللهُ لَكَ. فَقَالَ: «أُولَئِكَ خِيَارُ النَّاسِ، إِنَّهُ لَا قُدِّسَتْ أُمَّةٌ لَا يَأْخُذُ الضَّعِيفُ فِيهَا حَقَّهُ غَيْرَ مُتَعْتَعٍ» رواه ابن ماجة. أي: من غير أن يصيبه أذى. فالأمة التي يأخذ فيها الضعيف حقه بعد عناء وتعب دعا عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما ظنك بأمة تمنع الضعيفَ حقه!؟
الوقفة الثانية: لا نُقِرُّ أن يَقتل الإنسان نفسه، ولكن أسأل الله تعالى أن يتغمَّد هذا الشاب الذي أحرق نفسه وتسبب في هذه الثورة المباركة بواسع رحمته. وليس غريباً أن أدعو له وقد قتل نفسه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد دعا قبلي لرجل قتل نفسه في صحيح مسلم، وإني لأخشى أن تكون هذه المعصية سنة متبعة، وقد تكررت إلى هذه اللحظة([3]) ثلاث مرات، منها محاولة الجزائر.
الوقفة الثالثة: السعيد من وعظ بغيره والشقي من اتعظ به غيره. فهذه رسالة لكل طاغية أن يصالح شعبه، وقبل ذلك أن يصالح ربه، فيقمَ دينه، ويحكم شرعه.
الوقفة الرابعة: من يغالب الله يغلب. ومن يقوى على محاربة الله ودينه؟! ينبغي أن يعي كل طاغية أن الله أهلك مِن قبله من هو أشدُّ قوة وأعظم بأساً. قال تعالى: }أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآَثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ{ [غافر/21]، وقال: }أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآَثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ{ [غافر/82]. قال ابن كثير رحمه الله: "أو لم يسر هؤلاء المكذبون برسالتك يا محمد }فِي الأرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ{ أي: من الأمم المكذبة بالأنبياء، ما حلَّ بهم من العذاب والنكال مع أنهم كانوا أشد من هؤلاء قوة }وَآثَارًا فِي الأرْضِ{ أي: أثروا في الأرض من البنايات والمعالم والديارات، ما لا يَقْدِر عليه هؤلاء، كما قال: }وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ{ [الاحقاف/26]، وقال }وَأَثَارُوا الأرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا{ [الروم/9] أي: ومع هذه القوة العظيمة والبأس الشديد، أخذهم الله بذنوبهم، وهي كفرهم برسلهم، }وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ{ أي: وما دفع عنهم عذاب الله أحد، ولا رده عنهم راد، ولا وقاهم واق"([4]).
الوقفة الخامسة: الخروج على الحاكم واجب إذا منع من إقامة الصلاة وكان حرباً على دين الله. هذا يجب إعداد العدة للخروج عليه والإطاحة به. قال صلى الله عليه وسلم: «خِيَارُ أَئِمَّتِكُمْ الَّذِينَ تُحِبُّونَهُمْ وَيُحِبُّونَكُمْ، وَيُصَلُّونَ عَلَيْكُمْ وَتُصَلُّونَ عَلَيْهِمْ، وَشِرَارُ أَئِمَّتِكُمْ الَّذِينَ تُبْغِضُونَهُمْ وَيُبْغِضُونَكُمْ، وَتَلْعَنُونَهُمْ وَيَلْعَنُونَكُمْ». قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلَا نُنَابِذُهُمْ بِالسَّيْفِ؟ فَقَالَ: «لا، مَا أَقَامُوا فِيكُمْ الصَّلَاةَ، وَإِذَا رَأَيْتُمْ مِنْ وُلَاتِكُمْ شَيْئًا تَكْرَهُونَهُ فَاكْرَهُوا عَمَلَهُ وَلَا تَنْزِعُوا يَدًا مِنْ طَاعَةٍ» رواه مسلم. أما إذا حارب الحاكم الله ورسوله ومنع من الصلاة وإقامة دين الله وارتد عن دينه فلا خلاف بين العلماء في وجوب قتاله والخروج عليه.
الوقفة السادسة: من أعظم أسباب الصبر على الفقر وشظف العيش أن يعيشه الحاكم واقعاً مع رعيته، وأن يشعر بمعاناتهم، وأن يكون حاله كحالهم، أما إذا كان الشعب في ضيق وهو يرى من يتمتع من رأسه حتى أخْمَص قدميه من المسؤولين فأنى له أن يصبر! عجيب أن يكون المرء حاكماً ولا يفهم عن معاناة شعبه شيئاً! عجيب أن يقول طاغية تونس في خطابه الثالث: (الآن فهمتكم)!! وماذا قبل الآن؟ ليتك ثم ليتك ما فهمت! عجيب أن يقول لهم في خطابه الثاني: (إنه سيتم دعمكم بخمسة ملايين من الدولارات)! وإذا كان هذا المال موجوداً فلماذا حبسته عن شعبك في أول أمرك؟! في سنن الترمذي، عن أنس بن مالك، عن أبي طلحة رضي الله عنهما قال: "شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجوع، ورفعنا عن بطوننا عن حجر حجر، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حجرين". لقد أكل الصحابة ورق الشجر، ولكنهم لم يضجروا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم عاش واقعهم. هذه من أكبر العوامل التي تحمل على الصبر على ضيق الحال. فإذا أرشد مسؤول إلى التقشف عليه أن يبدأ بنفسه ليسمع قوله.
الوقفة السابعة: كم وددت ألا يجد الطاغية من يؤويه لتسمر طائرته في التحليق، فيكون الحرق مصيرها، حتى يذوق النار التي تسبب في إضرامها في جسد ذلك الشاب الذي أحاط به الكرب من كل مكان وضُيِّق عليه في أمر عيشه، وددت أن تحرق كما حرَّق قلوب شعبه.
الوقفة الثامنة: لقد شعر الجميع هذه الأيام بأهمية الأمن في حياتنا. ويكفي لبيان ذلك قول نبينا صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ، مُعَافًى فِي جَسَدِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ، فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا بحذافيرها» رواه الترمذي. أسأل الله أن يحفظ لهذه البلاد ولسائر بلاد المسلمين أمنها.
الوقفة التاسعة: إني لأهنئ إخواننا في تونس تهنئة حارة نابعةً من أعماق أعماق قلبي، وأسأل الله أن تنتهي هذه الثورة المباركة على خير، وأن يكون حالهم بعدها أفضل بكثير من حالهم قبلها، وأن يعلي في تونس كلمته، وأن يمكن فيها لمن يقيم شرعه ويحكم بكتابه.
الوقفة العاشرة: لا ينبغي أن يكتفي الناس بفرار الطاغية، لابد من بذل كل الأسباب حتى يقدم لمحاكمة عادلة تستوعب كل تجاوزاته وخياناته في حق شعبه. ولابد أن يكونوا حريصين على ألا يعود إلى كرسيِّ الحكم ذيلٌ من أذياله ليتحقق قطعُ دابره. أسأل الله أن يلحق بهذا الطاغية بقية إخوانه من الطغاة، وما أكثرهم! ففي كل وادٍ بنو سعد. اللهم ولِّ على المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها خيارهم، ولا تول عليهم شرارهم، اللهم أبرم للمسلمين في كل مكان أمر رشد، يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، اللهم إنا ندعوك بدعوة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: من ولي من أمرنا شيئاً فرفق بنا فارفق به، ومن ولي من أمرنا شيئاً فشق علينا اللهم فاشقق عليه. رب صل وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
------------------------------ [1] / مجموع الفتاوى (28/63). [2] / البداية والنهاية (10/222). [3] / العاشرة ليلاً، يوم الأحد 12 صفر 1432هـ. [4] / تفسير ابن كثير (7/138). هنا الرابط
|
0 تعليقات:
إرسال تعليق