المؤنس... من أحداث تونس













المؤنس... من أحداث تونس



تميم بن محمد بن عبد الله الأصنج




بسم الله الرحمن الرحيم



هكذا تلد لنا الأيام بعد مخاض عسير أحداث وغرائب وكأني بقول الشاعر:


إني عجبْتُ وفي الأيام مُعْتَبَرٌ *** والدّهْرُ يأتي بألْوانِ الأعاجِيبِ


ومن تلكم الأحداث؛ انتفاضة وثورة الشعب التونسي المسلم الأبي، الذي سئم المذلة والمهانة وأبا الخنوع والاستكانة، فشن حملة شعواء، فُجرت شرارتها حرق نفس عاشت آهات الحزن وأنين الألم لتحرق بذلك نظاماً غاشماً جثم على صدور أبناء هذا الشعب ما يزيد عن عقدين من الزمان، إنه النظام الذي أذاقهم سوء العذاب وسامهم المذلة والاضطهاد على كافة صوره وأشكاله ومن أبرزها وأهمها؛ الاضطهاد الديني الذي يعبر عن هوية هذا الشعب. فسقط ذلك النظام على إثر هروب صاحبه خوفاً وهلعاً يبحث في الأجواء عن مأوى وملجأ عله أن يجده عند أوليائه ممن من أعداء دينه –فرنسا-، ولكن إذ بأمله يخيب، ولا تحين ملجأ..
بهذا نوجز وصف هذا الحدث إذ أغنت عنا القنوات الفضائية والتغطيات الإعلامية عن توصيف وتحليل الحدث، ولكن يبقى أن نسلط الضوء على جانب الاعتبار من هذا الحدث بشمولية عامة إذا المؤمن معني بذلك، فالسعيد من وعظ بغيره. وذلك عبر هذه الدروس التي وزعتها على وقفات رئيسية مختتمة بنصيحتين.

• الوقفة الأولى: مع الشعوب.
1- إن للشعوب أثر في إحداث موجات التغيير الجماعي، وذلك مرتهن باستيقاظها من غفلتها، وإدراكها لعمق الخطر المحدق بها، فهم لذلك قوة لا يستهان بها، ولا يمكن تجاهلها بحجة أن الشعوب مغيبة ولا تدرك مصلحتها، وأنها واقعة في أفيون الحكام.
2- أهمية الإرادة والعزيمة الصادقة التي تصنع المتغيرات وتعلي بالدنيات، فمتى ما امتلكت هذه الشعوب إرادة صادقة وعزيمة جادة صنعت التغيير المنشود، ومتى ما سفلت وضعفت إرادتها وحطت معنوياتها كانت في الحظيظ وسيمت الذل والهوان. يقول سيد قطب معللاً سبب تسلط الطاغية هو فرد على شعب بأكمله حتى يذيقهم الذلة والمهانة: \"من ذا الذي يملك أن يجعل أولئك الضعفاء تبعاً للمستكبرين في العقيدة، وفي التفكير، وفي السلوك؟ من ذا الذي يملك أن يجعل أولئك الضعفاء يدينون لغير الله، والله هو خالقهم ورازقهم وكافلهم دون سواه؟ لا أحد. لا أحد إلا أنفسهم الضعيفة. فهم ضعفاء لا لأنهم أقل قوة مادية من الطغاة، ولا لأنهم أقل جاهاً أو مالاً أو منصباً أو مقاماً.. كلا، إن هذه كلها أعراض خارجية لا تعد بذاتها ضعفاً يلحق صفة الضعف بالضعفاء. إنما هم ضعفاء لأن الضعف في أرواحهم وفي قلوبهم وفي نخوتهم وفي اعتزازهم بأخص خصائص الإنسان!
إن المستضعفين كثرة، والطواغيت قلة. فمن ذا الذي يخضع الكثرة للقلة؟ وماذا الذي يخضعها؟ إنما يخضعها ضعف الروح، وسقوط الهمة، وقلة النخوة، والتنازل الداخلي عن الكرامة التي وهبها الله لبني الإنسان!
إن الطغاة لا يملكون أن يستذلوا الجماهير إلا برغبة هذه الجماهير. فهي دائماً قادرة على الوقوف لهم لو أرادت. فالإرادة هي التي تنقص هذه القطعان!
إن الذل لا ينشأ إلا عن قابلية للذل في نفوس الأذلاء.. وهذه القابلية هي وحدها التي يعتمد عليها الطغاة!!..\".
3- على الشعوب أن تكون حذرة يقظة من أن تستغفل أو يمرر بها مخططات يراد منها مسخ هويتها وحط قيمتها إلى غير ذلك.. بعد أن استيقظت وعادت إلى رشدها، فإن لم تكن بنفسها كانت بالفتافها حول علمائها وقيادتها الربانية، وبذلك تضمن بقاء مكانتها وعلو منزلتها.
قال سيد قطب: \"فالطغيان لا يخشى شيئاً كما يخشى يقظة الشعوب، وصحوة القلوب؛ ولا يكره أحداً كما يكره الداعين إلى الوعي واليقظة؛ ولا ينقم على أحد كما ينقم على من يهزون الضمائر الغافية\".
4- إن مما يميز الأقلية النخبوية عن الأكثرية الغثائية هي مسألة الاهتمامات، إذ نرى أن الشعوب لا تدرك خطر مسخ الهوية أو العبث بقيمها ومبادئها بقدر ما تدرك حرمان القوت الضروري، إذ الحالة هنا تستلزم أن تنهض وتنفاح من أجل المحافظة على آخر مقوم لها، وإن كلفها روحها. وهذا يفسر لنا حقيقة المقولة: صوت المعدة أقوى من صوت الضمير. فالشعوب يغلب عليها تحسس الجانب الحسي على الجانب المعنوي الروحي، وبهذا ذمت الأكثرية.
5- أن الحقوق تنتزع ولا توهب، فمتى علمنا أن حقاً وهب لشعب أو لجهة أو لفئة في عصر يدعي أنه يدعم الحريات ويرسخ أسس الديمقراطية، بل أغلب الحقوق كانت تقوم على إثر ثورات وانتفاضات، فمن أراد حقاً سعى لانتزاعه وأخذه لا انتظاره من عدوه.
6- إبطال العقدة المستحوذة على أذهان الشعوب حول هيلمانة الطغاة والظلمة، وحقيقة زيف تمكينهم واستعلائهم الخادع، وأن عروشهم خاوية منهارة مادامت الأمة مؤمنة بربها، متسلحة بسلاح العقيدة الصحيحة. يقول سيد –رحمه الله-: \"إنما هي الجماهير الغافلة الذلول، تمطي له ظهرها فيركب! وتمد له أعناقها فيجر! وتحني له رؤوسها فيستعلي! وتتنازل له عن حقها في العزة والكرامة فيطغى!
والجماهير تفعل هذا مخدوعة من جهة وخائفة من جهة أخرى. وهذا الخوف لا ينبعث إلا من الوهم. فالطاغية وهو فرد لا يمكن أن يكون أقوى من الألوف والملايين، لو أنها شعرت بإنسانيتها وكرامتها وعزتها وحريتها. وكل فرد فيها هو كفء للطاغية من ناحية القوة، ولكن الطاغية يخدعها فيوهمها أنه يملك لها شيئاً! وما يمكن أن يطغى فرد في أمة كريمة أبداً. وما يمكن أن يطغى فرد في أمة تعرف ربها وتؤمن به وتأبى أن تتعبد لواحد من خلقه لا يملك لها ضراً ولا رشداً!\".
7- أن الإنسان أو الشعوب لا تنتفض عبثاً وإنما تبحث عن قضية تدور حولها، وتجسد ثورتها وغضبها العارمة من أجلها، وبذلك يعلم أنه لا بدّ للإنسان من هدف وقضية يعيش من أجله ويموت عليه، وخير قضية وهدف هو هدف وغاية الوجود.
8- سياسة الطغاة مع شعوبهم تأتي من قبل استخفافهم والعبث بمقوماتهم، ومسخ هويتهم، وحجب عنهم مقومات المعرفة الصحيحة الرشيدة، وتغطيتهم بسياسة (ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد)، وأن بقاء عروش الطغاة مرهون ببقاء هذا الاستخفاف، ومتى ما أزيلت هذه الغشاوة انهارت عروشهم. فهل تعي الشعوب مدى المكر الكُبّار الذي يعمل بها ليل نهار. قال سيد قطب: \"واستخفاف الطغاة للجماهير أمر لا غرابة فيه؛ فهم يعزلون الجماهير أولاً عن كل سبل المعرفة، ويحجبون عنهم الحقائق حتى ينسوها، ولا يعودوا يبحثون عنها؛ ويلقون في روعهم ما يشاءون من المؤثرات حتى تنطبع نفوسهم بهذه المؤثرات المصطنعة. ومن ثم يسهل استخفافهم بعد ذلك، ويلين قيادهم، فيذهبون بهم ذات اليمين وذات الشمال مطمئنين!\".

• الوقفة الثانية: مع الظلمة والطغاة:

1- إن سياسة كبت الشعوب وقهرها وتجاوز حريتها في التعبير عن عقيدتها وهويتها الحقيقية، ومنعها من أن تتنفس في سماء العدل والإنصاف والأمن والرخاء.. كل ذلك يولد احتقان داخلي لا يلبث أن يتفاعل فينتج عنه انفجار يدوي في فضاء الانتصار، ليدك به عروش الباطل وأهله.
2- إن قيادة الشعوب ليست من المهام البسيطة والتي يستطيع آحاد الناس أن يتولى ذلك، وإنما تتطلب مقدرة وحنكة ودين وأمانة... إلى غير ذلك من الصفات، فالمسألة ليست تشريف بقدر ما هي تكليف وأعباء تناط بالقيام بحقها. وهذا الشعوب تتوسم فيمن يقوم بأمرها، ومتى ما علمت خذلانه فإنها لا تتورع في أن تمزقهم. فهل يدرك الطغاة غضب الشعوب. يقول سيد قطب واصفاً الأعباء التي قام بها يوسف -عليه السلام-: \"ولم يكن يوسف يطلب لشخصه وهو يرى إقبال الملك عليه فيطلب أن يجعله على خزائن الأرض.. إنما كان حصيفاً في اختيار اللحظة التي يستجاب له فيها لينهض بالواجب المرهق الثقيل ذي التبعة الضخمة في أشد أوقات الأزمة؛ وليكون مسؤولاً عن إطعام شعب كامل وشعوب كذلك تجاوره طوال سبع سنوات، لا زرع فيها ولا ضرع. فليس هذا غنماً يطلبه يوسف لنفسه. فإن التكفل بإطعام شعب جائع سبع سنوات متوالية لا يقول أحد إنه غنيمة. إنما هي تبعة يهرب منها الرجال، لأنها قد تكلفهم رؤوسهم، والجوع كافر، وقد تمزق الجماهير الجائعة أجسادهم في لحظات الكفر والجنون.\"
3- إن من أسباب استمرار مسلسل الطغاة مع شعوبهم هو استغلالهم للجانب العاطفي والتفكير السطحي الذي تتسم بها الشعوب، فالطغاة عندما يدركون أن الخطر يقترب منهم وأن الشعوب بدأت تستيقظ، سعوا إلى دغدغة مشاعرهم بكلمات وشعارات ووعود تحمل في طياتها الإصلاح والتغيير إلى غير ذلك، ثم بعد أن تسكن هذه الشعوب وتهدأ، إذ بهؤلاء الطغاة يعودون إلى ما كانوا عليه، ولذا رأينا كيف حاول الرئيسي التونسي تقديم إصلاحات ووعود لشعبه، ولكن بعد أن فات الأوان. \"وتلك شنشنة الطغاة حينما يحسون أن الأرض تتزلزل تحت أقدامهم. عندئذ يلينون في القول بعد التجبر. ويلجأون إلى الشعوب وقد كانوا يدوسونها بالأقدام. ويتظاهرون بالشورى في الأمر وهم كانوا يستبدون بالهوى. ذلك إلى أن يتجاوزوا منطقة الخطر، ثم إذا هم هم جبابرة مستبدون ظالمون!\".
4- أهمية العدل إذ به صلاح أمر الدنيا والدين. وهو مقوم أساسي للحكام على شعوبهم، ومطلب الجميع. ورأس العدل تحكيم شريعة رب الأرض والسماء. يقول ابن خلدون في مقدمته ناقلاً عن الموبذان: \" إن الملك لا يتم عزة إلا بالشريعة والقيام لله بطاعته والتصرف تحت أمره ونهيه، ولا قوام للشريعة إلا بالملك، ولا عز للملك إلا بالرجال، ولا قوام للرجال إلا بالمال، ولا سبيل للمال إلا بالعمارة، ولا سبيل للعمارة إلا بالعدل، والعدل الميزان المنصوب بين الخليقة نصبه الرب وجعل له قيماً وهو الملك\".
5- أن الطغاة يقبعون في غشاوة الغرور والكبر الذي يجعلهم يستمرون في غيهم وبطرهم، مستمدين ذلك من أعوانهم وأنصارهم من جهة سواءً في الداخل أو الخارج، ومن غفلة هذه الشعوب من جهة أخرى، ولكن عند ساعة الحقيقة نجد أن تلك الغشاوة قد زالت، وعندها يرون حقيقة ما هو عليه، ولكن بعد أن تسخطت الشعوب ودكت عروشهم وتبرأ الأنصار وشمتوا بهم. قال سيد –رحمه الله-: \"فما يخدع الطغاة شيء ما تخدعهم غفلة الجماهير وذلتها وطاعتها وانقيادها..\".
6- إن التاريخ يعيد نفسه سواءً في إهلاك الظالمين أو إعزاز المصلحين، فهلا اعتبار الطغاة والظلمة من أحداث أقرانهم وجعلوا من ذلك درساً لهم فرجعوا، وأصلحوا أحوالهم. وخير معتبر في ذلك إيران شاه.
7- أن الولاء الحقيقي إنما يكون ولاء قائم على أساس الدين الذي يعزز لأبناء الوطن المسلم، ولا يكون لغيرهم من أعداء الدين، فهم وإن أبدوا ولاءً وتعاوناً فإنما ذلك بفعل المصالح المشتركة، ولن يدوم ريثما تنتهي هذه المصالح. وفي رفض فرنسا -التي تونس امتداداً للفرانكفونية- استقبال هذا الرئيس أكبر دلالة على ذلك، إذ الولاء مصلحي والبراءة منفعية.
8- عمق التفكير الاستراتيجي لأعوان الظلمة الذين يضحون بالمصالح الشخصية الآنية في مقابل المصالح الكلية المستقبلية، ففرنسا ضحت بعميلها ولم ترع له أي عهد مقابل أن تخطب وداد الشعب التونسي والحكومة الجديدة.
9- أن هناك فرق بين أن يؤتى الطغاة والظلمة من قبل شعوبهم وبين من تكون نهايتهم على أيدي عدوهم من الخارج، إذ في الحالة الأول يعتبره الشعب نموذجاً للخيانة، بينما في الحالة الثانية يظل عندهم زعيماً، ورمزاً وطنياً إلى غير ذلك من المسميات التي تدل على حب الشعب له. ورحم الله حاكماً ترك ذكراً حسن بعد رحيله.

الوقفة الثالثة: لقادة التغيير في الأمة:

1- أن الشعوب مهما بلغت من الحماسة والاندفاع الذي قد يعبر عن وضع وحالة ما، إلا أنهم يفتقدون الرؤية الرشيدة التي تجعلهم يستثمرون هذه الحماسة والإرادة الشعبية، وهنا يأتي دور الصفوة من الناس الذين يدركون عواقب الأمور ويستثمرون مثل هذه الأحداث. ولذا لزم أن توجد روح المبادرة لدى قيادة الأمة وألا يكونوا في معزل عن الأحداث التي تحيط بهم وألا تترك لغيرهم وأن يبذلوا جهدهم من أجل ذلك. يقول العز بن عبد السلام –رحمه الله-: \"ينبغي لكل عالم إذا أذل الحق وأخمل الصواب أن يبذل جهده في نصرهما وأن يجعل نفسه بالذل والخمول أولى منهما وإن عز الحق فظهر الصواب أن يستظل بظلهما وأن يكتفي باليسير من رشاش غيرهما\".
2- إن الثورات إذا قامت دون أن تستند لأي مشروع نهضوي بديل أو مشاريع عامة غير محددة المعالم مرسومة الأهداف فإن ذلك يعني شيوع حالة من الفوضى التي تزيد الطين بله، مما يعطي نوعاً من الفوضى التي قد ترضى في مرحلة ما بحلول طارئة أو مسيسة لمصالح خارجية، فتخدع بعودة الأوضاع إلى سابق عهدها، كما فعل بن علي على إثر سقوط بورقيبة. لذا لابد من التنبه لذلك وإعداد المشاريع ورسم الأهداف قبل القيام بإسقاط نظام سابق. .
3- على قيادة الشعوب أن يعلموا أنهم مستهدفون لأنهم هم قلب الأمة النابض وعقلها المحرك، لذا فهم معرضون للخطر من قبل الطغاة. \"فالطغيان لا يخشى شيئاً كما يخشى يقظة الشعوب، وصحوة القلوب؛ ولا يكره أحداً كما يكره الداعين إلى الوعي واليقظة؛ ولا ينقم على أحد كما ينقم على من يهزون الضمائر الغافية\".
4- ليس شرطاً أن يتحقق النصر أو التغيير أثناء حياة قادة التغيير، بل عليهم أن يثقوا بتحقق دعواتهم وإن أدركتهم منيتهم، فإن ذكرهم سيبقى مخلداً باقياً ما بقية دعواتهم، ولأن أقول في قصة الرجل الذي أشعل فتيل الثورة التونسية ومات ولم ير حلم سقوط ما كان يتمناه عبرة فحسب، ولكن في تأمل قصة غلام الأخدود الذي مات ولم ير هذا الانتصار الذي تحقق بعد موته، ولكن حسبه أنه قد أدى رسالة، فخلد بذلك بقرآن يتلى إلى قيامة الساعة.
5- أن درس التضحية من أعظم الدروس التي يستفيدها المجددون والمصلحون في الأرض. وبقدر ما يبذلون ويضحون يكون أثر ذلك في قلوب أتباعهم، وإلا بقية دعوات وأقوالهم وشعاراتهم شعراً يتلهى بها أتباعهم، ثم تذهب في مهب الرياح. لأن الأتباع يتأثرون بذلك ويعلمون مصداقية الهم الذي عاناه ويحمله صاحب شعار التغيير، وعندما رأى الشعب التونسي ما حل بهذا الرجل الذي أحرق نفسه وما الذي دعاه إلى ذلك. أثر في وجدانهم وعلموا حقيقة القضية. وهكذا في قصة غلام الأخدود. وليس يعني ذلك أن تلقى الأنفس في التهلكة ولكن أن توجد أمانة الدعوة والكلمة ومصداقية الدعوة، وهذه سنة ماضية في أصحاب التغيير. يقول الشيخ محمد رشيد رضا: \"وقد جرت سنة الأنبياء والمرسلين والسلف الصالحين على الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإن كان محفوفاً بالمكارة والمخاوف، وكم قتل في سبيل ذلك منهم من نبي وصديق فكانوا أفضل الشهداء.
6- إن على أصحاب منهج التغيير أن ألا يقللوا أو يزهدوا من شأن قضايا الناس المعيشية أو الظلم الذي يمارس ضدهم، ولا يحصروا قضية التغيير في الأفكار والمفاهيم -وإن كان ذلك مهماً-، بل عليهم أن يلتفوا ويتضامنوا مع قضايا الناس التي تلامس احتياجاتهم الجسمانية ورفع الظلم عنهم، ليعلم الناس أن هؤلاء هم من يسعون لمصالحهم ويحققون أمانيهم، وبالتالي لا تستغل هذه الشعوب من قبل جماعات أو جهات أخرى لكي يأتوا ويرفعوا شعار تحرير الشعوب من الظلم ونشر قيم الحرية والعدالة فيصبح ذريعة للتحكم بقرارات هذه الشعوب كما يصنع الغرب اليوم. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم عن حلف الفضول وهو قام على أساس نصرة المظلوم: ((لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفاً ما أحب أن لي به حمر النعم، ولو أدعى به في الإسلام لأجبت)).
7- على قيادة الأمة أن يستغلوا الأحداث ويحسنوا توظفيها بما يحقق أهداف التغيير المرجو، فحادثة إحراق الرجل لنفسه كانت سبباً لإثارتها إعلامية وجماهيرا ً، ولذا يجب أن توظف قضايا الأمة ومآسيها لإحداث يقظة للشعوب، فمن لم تحركه الكلمة والموعظة حركته المشاعر المؤلمة.

الوقفة الرابعة: مع قضايا التغيير:

1- إن الشعب التونسي انتفض انتفاضة يبتغي بها التغيير لنظام الطغيان والديكتاتورية المتسلطة، ولكن يبقى موضوع التغيير من القضايا والمواضيع الفضفاضة الحمالة لأي شيء...، فما التغيير الذي نرجوه؟ وهل التغيير لذات التغيير أو للنتيجة المنشودة؟ وما هي آليته وخطواته؟ وكيف يتم تحقيق ذلك في أرض الواقع؟. يعني ذلك أنه لا بدّ من رؤية واضحة لما هية التغيير المنشود، ورسم آلياته وخططه، عبر برامج مدروسة وإصلاحات شاملة، وتقديم البديل والحلول المناسبة من أجل مستقبل راغد.
2- إن الأرغفة اليابسة والظروف البائسة هي من العوامل التي تدعو إلى الانتفاضة، وهي من القضايا التي يستغللها دعاة الإصلاح والتغيير وهي مطيتهم نحو تحقيق أهدافهم، لأنها مقوم أساسي ورسالة سريعة تفهمها وتدركها الشعوب.
3- إن الفساد الاجتماعي والسياسي والاقتصادي لا يحدث إلا على إثر الفساد الديني، ولذا إن أردنا التغيير والإصلاح الفعلي والحقيقي فلا بدّ أن يكون الدين في مقدمة أولويات قائمة التغيير. فبصلاحه يصلح حال الناس ومن ثم يكونوا هم أوصايا على تحقيق وتطبيق بقية الإصلاحات.
4- إن من أهم عوامل لانتصار قضايا التغيير الصمود والصبر والاستمرارية لتحقيق الأهداف، وعدم الاستسلام أو الرضوخ لأي عود وهمية، فصمود الشعب التونسي أدى إلى نتيجة، بخلاف لو استسلم ورضي ببعض المكاسب والإصلاحات المؤقتة.
5- أن الأمة لا تنتصر بأفرادها وإنما بمجموعها فالحكام لا يستطيعون الوقوف أمام موجة التغيير العام، بخلاف تيارات التغيير الفردية. فهرقل عندما هم أن يسلم عجز أمام قومه فخاف أن ينقلبوا عليه فآثر البقاء على دينه مقابل أن يسلم له الحكم. ولك أن تتأمل بعد فتح مكة كيف بدأ الناس يسلمون ويأتون وفوداً؛ لأن موجات التغيير عام.
6- كلما كانت قضية التغيير ملحة وتعبر عن مطلب جماعي، كان ذلك أدعى لانتصارها. بخلاف القضية التي تعبر عن حالة ما سواءً فكرية أو عاطفية ثم تزول بزوال المؤثر.

• الوقفة الخامسة: مع اللطيف الخبير:

1- حلم الله الذي وسع هؤلاء الطغاة والظلمة إذ أمهلهم ومد في أعمارهم وعافيتهم، ولم يأخذهم بغتة، فإذا كان هذا حلمه بالظالمين فكيف بالطائعين المنيبين التائبين.
2- لطف الله بالشعب التونسي، ويتجلى:
- أنه ألقى الرعب والهلع في قلب ذلك الطاغية، فهرب خائفاً فزعاً، ولو بقي لسآلت دماء أكثر.
- كيف أن الله تعالى جعل من فعل ذلك الرجل الذي أحرق نفسه إيقاظاً لقلوب هذا الشعب لكي يتنصر ويغير من حاله، ولو شاء الله ألا يحرك ذلك الفعل في قلوبهم شيئاً لفعل، ولكن لطفه ورحمته بعباده، وإلا كم هي المواقف والأحداث التي تحدث ولكن لا تستنهض.

* الوقفة السادسة: في العاقبة والمآلات.

1- إن نهاية التكبر والطغيان والعلو في الأرض بالفساد وظلم الناس وأكل حقوقهم واضطهادهم آيل إلى الذلة والمهانة والصغار، ولو بعد حين، فلا يغتروا بما أوتوا من جاه ومال وسلطان فأن عروشهم محكومة بالزوال متى أذن الله بذلك، قال تعالى:((فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون* فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين)) [الأنعام:44-45]. \"قيل: إن ولداً ليحيى البرمكي، قال له وهم في القيود: يا أبة، بعد الأمر والنهي والأموال صرنا إلى هذا؟!
قال: يا بني! دعوة مظلوم غفلنا عنها، لم يغفل الله عنها\".

2- إن نهاية الولاء لأعداء الدين والبراءة من أهل الإسلام المتمثلة بالأقوال والأفعال والسياسات، مصيرها الخذلان والتبرؤ. وقد حذرنا الله من ذلك فقال: (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من أولياء ثم لا تنصرون)[هود:]. فلم ترحب فرنسا بهذا الرئيس المخلوع وتبرأت منه، هذا في الدنيا وأما في الآخرة فقد قال الله واصفاً حال الكافرين: ((إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين أتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب))[البقرة: ].
يقول أبو الفتح البستي:


من يتق الله يحمد في عواقبه *** ويكفه شر من عزوا ومن هانوا
من استجار بغير الله في فزع *** فإن ناصره عجز وخذلان
فالزم يديك بحبل الله معتصماً *** فإنه الركن إن خانتك أركان


3- إن نهاية ضعف الإيمان أو انعدامه يؤدي إلى اليأس والإحباط والقنوط. المتمثل بسلوكيات وأفعال -بقتل نفسه أو بالردة أو بسب الدهر أو ...- تنمي عن ضجر هذا العبد وعن تسخطه، وقوة الإيمان هي التي تصنع الرجال مهما بلغ بهم الحال. يقول ابن القيم مبيناً أثر الإيمان على العبد: \"أن نفس الإِيمان بالله وعبادته ومحبته وإخلاص العمل له وإفراده بالتوكل عليه هو غذاءُ الإِنسان وقوته وصلاحه وقوامه، كما عليه أَهل الإيمان، وكما دل عليه القرآن..\".

4- أن نهاية التضحية والعزيمة الصادقة والصبر عليها الانتصار على الخصوم. قال تعالى موصياً نبيه بعد أن ذكره له كيف كانت نهاية القرى الظالمة: ((فاصبر إن العاقبة للمتقين))[هود:49].

5- أن نهاية الذنوب والمعاصي استخفاف الطغاة بشعوبهم، وذلتهم وهوانهم، ومتى ما صلحوا ورجعوا إلى الله صلحت أوحالهم، وأن ما أصابهم بسبب ذنوبهم: ((ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون))[الروم:41].

وفي الختام: اختم بهاتين النصيحتين:

- شكر الله تعالى الذي منّ على هذا الشعب بالتحرر من قيود الظلم والاضطهاد بكافة أشكاله وصوره، ووفقهم إلى الإطاحة بهذا النظام الغاشم، وهذا الشكر يتمثل: بتحكيم شرع الله تعالى في حياتهم، وإظهار شعائر الدين، وعدم الفوضى، وأن يتقوا الله في تولية من يرتضون دينه وأمانته، ويتعاونوا فيما بينهم لإصلاح أوضاع البلاد. وقد رأينا بوادر ذلك في بث الأذان على قناة البلاد الرسمية. فالحمد لله على كل حال،
- التوبة إلى الله تعالى: فمهما أسرف العبد على نفسه بالمعاصي والسيئات فإن باب التوبة مفتوح، ولن يغلق حتى تطلع الشمس من مغربها. مهما كبرت ذنوب العبد وخطاياه سواءً كان من الظالمين الطغاة أو من الصالحين، فقد قال الله تعالى عن بني إسرائيل الذي قالوا بألوهية عيسى وأنه ولد الله: ((أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم))[ المائدة: ]، وقال بعد آية المحارية: ((إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فعلموا أن الله غفور رحيم)).[المائدة: ]. وقال لعموم المؤمنين: ((وتوبوا إلى الله جميعاً أية المؤمنون لعلكم ترحمون)) [النور: ].

والله من وراء القصد، وهو يهدي السبيل.


كتبة الفقير إلى عفو ربه: تميم بن محمد بن عبد الله الأصنج
صنعاء – اليمن
Alasng1427@hotmail.com


الهوامش:
- ديوان الحسن بن هانئ - (1 /130)
- حرق النفس أو قتلها بشيء لا يجوز، وهو من كبائر الذنوب، ولا نبرر لأي شخص مهما بلغت به الحال أن يقدم على ذلك. وقد دللت نصوص من الكتاب والسنة على ذلك، منها: قوله تعالى: (ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيماً*ومن يفعل ذلك عدواناً وظلماً فسوف نصليه ناراً وكان ذلك على الله يسيراً)، وللمزيد راجع: كتاب الكبائر للذهبي:ص123.
2- في ظلال القرآن - (4/ 398)
- في ظلال القرآن - (4 / 398)
- في ظلال القرآن - (7 / 445)
- في ظلال القرآن - (6 / 380)
- في ظلال القرآن - (4 / 317)
- في ظلال القرآن - (5 / 345)
- مقدمة ابن خلدون - (1 / 60)
- في ظلال القرآن - (7/444)
- تأمل ذلك مدلول ذلك في الرئيس العراقي الراحل، والرئيس التونسي المخلوع.
- طبقات الشافعية الكبرى للسبكي (8 / 228).
- انظر: مقال: لا تغيير في تونس، عبد الحميد إبراهيم، مجلة البيان، العدد (29).
13- في ظلال القرآن - (4 / 398)
- تفسير المنار - (4 / 27)
- السنن الكبرى للبيهقي، برقم ( 13461).
- سير أعلام النبلاء للذهبي (9/61)
- طريق الهجرتين و باب السعادتين - (14 / 1)

0 تعليقات:

إرسال تعليق

المتابعون

Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites More

 
Free Web Hosting