الإسلام وعلاقة الشعوب بالحكام













الإسلام وعلاقة الشعوب بالحكام



عصام بن صالح العويّد




بسم الله الرحمن الرحيم



الحمد لله الذي أرسل رسله بالبينات وأنزل معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزل الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز ، والصلاة والسلام على البشير النذير ، المؤيد بالسلطان النصير ، جمع الله له بين العلم والحجة ، والسيف والنصرة .

عاشت الشعوب في كثير من أقطار الدول العربية هذه الأيام فرحة وبهجة عارمة بعد إسقاط رئيس تونس بن علي على أيدي شبابها العُزل ، وهي فرحة غامرة وأُنس عاطر لا يستطيع أيُّ سويٍّ كتمانه ، بل صفقت الطير بأجنحتها والحوت بزعانفها والدواب بجوانحها فرحاً بزوال مثل هذا الظالم وزبانيته ، ولكن كلّ هذا لا بد أن يوزن بميزان الكتاب والسنة مع اعتبار مقاصد الشريعة دون تأثر بميل الهوى ورغائب النفس كما قال تعالى (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينً) [الأحزاب : 36] .

وبادئ الأمر ؛ أن لله دركم يا شعب تونس فقد ذلت الناس دهرا طويلا حتى أمام الكفر البواح الذي عندهم من الله فيه برهان مع الظلم الصراح في الدين والمال والعرض ، فعاد الناس بعدكم يتلمظون طعم العز والعدل ، وكنتم من أول من امتثل قول الله تعالى (وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ) [الشورى : 39] ، وقد كان أهل العلم وما زالوا يخافون على الناس شر هذه الفتن ، ووالله خفناه عليكم لكن صبرتم صبر الرجال وضرب الله قلوب الملأ الظالمين عندكم بعضها ببعض فتحقق أول مرادكم ، وعسى الله أن يتمم عليكم من يحكمكم بالعدل والإيمان .

وعاشت بلاد المسلمين بعد هذا على نار السفود فهذه أرض الكنانة تغلي وبدأ رئيسها تحت ضغط الجماهير التي ملأت الميادين يتنازل ويخضع شيئاً فشيئاً ، بل أعلنت الدول الكبرى مشاورات للانتقال السلمي للسلطة ! ، وفي اليمن والجزائر والأردن بوادر ، وأغلقت سوريا بعض خدمات الإنترنت ، والله وحده العالم بما ستؤول إليه الأمور ، وعسى الكريم الرحمن أن ييسر للمسلمين خيرها وبركتها ويكفيهم شرها وضرها .

وهذه القضايا الكبار من مسائل الإمامة وانعقاد البيعة والسمع والطاعة والخروج على الولاة وما يجب على العلماء وأهل الحل والعقد والناس من أطر الأمراء على الحق أطراً ونحوها لا يظن ظان أن الشريعة التي أكملها الله (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا) [المائدة : 3] لم تأت ببيان شاف في هذه المدلهمات من القضايا ، بل أبانها الكتاب وأوضحتها السنة وصنف فيها أهل العلم مصنفات مشهورة ، فما من كتاب من كتب السنة إلا وفيه كتاب أو أبواب عن هذه المسائل ، ففي البخاري كتاب "الأحكام" ، وفي مسلم "الإمارة" ، وفي أبي داود " الخراج والفيء والإمارة" ، وفي النسائي "البيعة" ، وهكذا بقية كتب السنن ، وفي كتب العقائد كالسنة للخلال أو لابن أبي عاصم أو الشريعة للآجري أو شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة للالكائي وغيرها كثير ، وأيضاً في كتب الفقه من المذاهب الأربعة وغيرها بسط واسع لهذه المسائل .

وقد وقفت على كلام لبعض من يُنسب للعلم تعليقاً على أحداث تونس مفاده "أن عدم تنفيذ الحاكم وعوده في برنامجه الانتخابي يبيح للرعية الخروج عليه وعدم الالتزام بطاعته ، وإذا استشرى الفساد وأصبح ظاهراً ومخالفا لأحكام الشريعة وجب الخروج على الحاكم" ونَسب الخبرُ هذا الكلام لعدد من كبار علماء وشيوخ الأزهر ـ حسب وصف صحيفة أخبار مصر ـ منهم الدكتور عبدالمعطى بيومى عضو مجمع البحوث الإسلامية . وكذا قرأت لكاتب سمى نفسه أبا قدامة الفلسطيني جوز فيه الخروج على الحاكم الجائر ، ولوى أعناق النصوص لتوافق مشربه .

وفي مقابل ذلك اطلعت على بحث مطول يزعم فيه كاتبه أن النصيحة لولي الأمر لا تكون إلا بالسر بينك وبينه مستدلا بحديث (من أراد أن ينصح لذي سلطان فلا يبده علانية ولكن يأخذ بيده فيخلو به فإن قبل منه فذاك وإلا كان قد أدى الذي عليه) ، فترك كل ما تواتر من الأحاديث وفعل الصحابة والسلف في إنكار المنكر علانية إن احتاج الأمر إلى ذلك كما سيأتي بيانه بعون الله ومشيئته سبحانه .

وآخر يزعم أن الخروج على رئيس تونس لا يجوز ، وأنه يجب على أهل تونس السمع والطاعة ، وكتب مقالا مطولا في تقرير ذلك ، وهذا وذاك أخذ ببعض الكتاب وترك لبعض ، والحق بينهما يلوح تطمئن إليه النفوس المتجردة وتقبله العقول المتأملة .

فالحاكم له أحوال ثلاثة لا يخرج عنها : إما أن يكون عادلا أو جائرا أو كافرا .


فالأول : الحاكم المؤمن العادل .


وهذا اتفقت الأمة جمعاء على وجوب طاعته في غير معصية الله وعلى حرمة الخروج على ولايته ، وجاءت النصوص المتكاثرة في الثناء عليه :

ففي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله : إمام عادل .." فذكره أولهم .
وفي صحيح مسلم مرفوعاً : "مَنْ أَطَاعَ الأمير فَقَدْ أَطَاعَنِى وَمَنْ عَصَى الأمير فَقَدْ عَصَانِى".
وأخرج أبو داود عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيَّ قال رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم : "إِنَّ مِنْ إِجْلاَل الله .. إِكْرَامَ ذِي السُّلْطَانِ الْمُقْسِطِ" ، وقد روي موقوفاً وإسناده أثبت .

وفي آية النساء (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ) .
فإن أمر بطاعة الله وجبت طاعته لله ثم لأمر ولي الأمر بها ، وإن أمر بما تختلف في مثله آراء الناس مما فيه تنظيم لحياتهم كأنظمة العمل والمرور والبناء ونحوها وجبت طاعته أيضاً لأن أمور الناس لا تنتظم إلا بهذا ، بل عاصيه عاص لله ورسوله صلى الله عليه وسلم إن كان عدلا آمرا بالقسط ، وهذا الجنس من الولاة عزيز عزيز .

والثاني : الكافر كفراً طارئاً أو أصلياً.

والكفر الأصلي واضح كأن يتغلب كافر على بلد مسلم كما يجري في فلسطين وكما جرى في العراق ونحو هذا ، وأما الكفر الطارئ بأن يكون في الأصل مسلم ثم يطرأ عليه الكفر بشرك أكبر أو باستباحة محرم معلوم من الدين بالضرورة وغيرها ، وهذه مرجعها لأهل العلم المتحققين في هذه المسائل من أهل السنة ممن لم يتلوثوا بلوثة الإرجاء فيداهنوا الحكام ، أو يتلطخوا ببدعة الخوارج فيكفروا بالشبهة ، فمن ثبت كفره وجب الخروج عليه حين القدرة بالكتاب والسنة والإجماع .

قال تعالى (وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا) [النساء :141]
وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال : "بايعنا رسول الله على السمع والطاعة في السر والعلن وعلى النفقة في العسر واليسر والأثرة وأن لا ننازع السلطان أهله ، إلا أن نرى كفرا بواحا عندنا فيه من الله برهان" رواه الشيخان .

قال ابن المنذر : أجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم أن الكافر لا ولاية له على مسلم بحال . [أحكام أهل الذمة 2/414] .
وقال الإمام النووي في شرحه لصحيح مسلم 12/229 نقلا عن القاضي عياض : أجمع العلماء على أن الإمامة لا تنعقد لكافر ـ يعني ابتداء ـ وعلى انه لو طرأ عليه الكفر انعزل .. فإن تحققوا العجز لم يجب القيام .
وقال الحافظ ابن حجر في الفتح 13/123: إنه ـ أي الحاكم ـ ينعزل بالكفر إجماعا فيجب على كل مسلم القيام في ذلك، فمن قوي على ذلك فله الثواب، ومن داهن فعليه الإثم ومن عجز وجبت عليه الهجرة من تلك الأرض . وقال في الفتح أيضاً 13/7 : وإذا وقع من السلطان الكفر الصريح، فلا تجوز طاعته في ذلك، بل تجب مجاهدته لمن قدر عليها.

وهذه الحالة تنطبق على الحكومات التي أقرت الشرك الأكبر وحمته مما هو من نواقض التوحيد كدعاء غير الله أو الذبح للأضرحة وما في حكمها ، وكذا من عطلت شريعة الله وتحاكمت في أصل دستورها للقوانين الوضعية فأحلت ما حرم الله أو حرمت ما أحل الله مما هو معلوم من الدين بالضرورة ، على تفاصيل في هذا وذاك ليس هذا موضعها ، وأكثر الحكومات المعاصرة في عالمنا العربي والإسلامي وقعت في هذا المنكر العظيم والبلاء العريض .

ومن المقرر عقلًا وشرعاً أن القدرة المانعة من حصول الهرج العام واستحار القتل بالناس وانتهاك الأعراض وضياع الأموال بصورة ظاهرة شرط لجواز الخروج ، وإلا حرم درءاً للمفسدة الكبرى .

وما يقوم به شباب مصر في هذا الحين من مطالبة بزوال هذا المنكر العظيم المتمثل بهذا النظام الحاكم وجلامدته هو حق مشروع وقيام بهذا الواجب المتحتم على كل قادر ، ولكننا لا ندري هل يقدرون على هذا أم لا ؟ فمصر ليست كتونس لا في الاعتبار المحلي ولا الإقليمي ولا الدولي ، ثبت الله أقدام المرابطين هناك ، وأنزل السكينة على قلوبهم ، وهداهم سبيل الرشاد ، وسدد أقوالهم وأفعالهم ، وقد جرب الناس مؤمنهم وكافرهم أن النصر إنما هو صبر ساعة .

والثالث : الحاكم الجائر فهو ليس بعدل ولا كافر .

وهذا تجب مناصحته والأخذ على يديه ويحرم الخروج عليه ، فالواجب هنا يقع في صراطٍ بين الخروج والخنوع ، فإذا كان الخروج في هذه الحال لا يجوز فالخنوع كذلك ، وإذا كان الخنوع لا يجوز فالخروج أيضا كذلك لا يجوز .

وهذه المناصحة درجاتها راجعة إلى السياسة الشرعية فكل ما أمكن إزالة المنكر بالأدنى وجب المصير إليه دون الأعلى ، فإن زال المنكر بمناصحة السر اكتفى به ، فإن لم يتحقق المقصود جهر برفق ، فإن لم جهر واشتدد بحسب القدرة وبحسب مقدار المنكر ، شريطة ألا يؤدي ذلك إلى منكر أشد أو يثير فتنة الخروج على الحاكم الجائر .

فتقييد الإنكار بالإشهار أو الإسرار أمر تحكمه مقاصد الشريعة ، و يجب ضبطه بضوابطها ، و ينظر إليه من خلال المصالح المترتبة على القيام به ، و المفاسد المترتبة على تركه ، و هذا يختلف بحسب الأمور المنكرة ، و حال المنكِر ، و المنكَر عليه ، و أسلوب الإنكار ، لذلك رأينا أئمة السلف ينكرون المنكر على الحاكم علانية تارةً ، وخفيةً تاراتٍ أُخَر ، فيما بينهم و بين الحاكم ، دون أن يتحجَّر أحدهم واسعاً ، أو يحمل الناس على رأيه مكرَهين .

وقد جاء في سورة النساء آية سماها أهل العلم آية الأمراء ، وهي قوله تعالى (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) [النساء : 58]

فالآية أوجبت على الحكام أمرين عظيمين : 1- أداء الأمانات . 2- والحكم بالعدل .
وهذان جماع السياسة الربانية .

فمن لم يؤد الأمانة أو لم يحكم بالعدل بأن مثلا :


1- ولى شخصا لقرابة أو معرفة وغيرُه أكفأ وأصلح منه ، وقد قال عمر بن الخطاب : من ولى من أمر المسلمين شيئا ، فولى رجلا لمودة أو قرابة بينهما فقد خان الله ورسوله والمسلمين .

2- أو لم يقسم بيت المال بالعدل بل استأثر به هو أو قرابته أو حاشيته بما ليس لهم من بيت المال ، وقد قال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح "مَنِ اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينِهِ فَقَدْ أَوْجَبَ اللَّهُ لَهُ النَّارَ وَحَرَّمَ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ وَإِنْ كَانَ شَيْئًا يَسِيرًا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ : وَإِنْ قَضِيبًا مِنْ أَرَاكٍ".

3- أو ظلم أو بغى ، أو أمر بمنكر أو نهى عن واجب أو نشر الفساد أو حماه فقد قال صلى الله عليه وسلم : "مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْتَرْعِيهِ اللَّهُ رَعِيَّةً يَمُوتُ يَوْمَ يَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لِرَعِيَّتِهِ إِلاَّ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ ."

4- أو لم يقم بأمر الصحة أو التعليم أو المواصلات أو الاتصالات ونحو ذلك ؛ كما يجب .

والمقصود انه انتقص شيئا من ركني الولاية العادلة ولنفترض أنه : استشرى في عهده الفساد السياسي أو الإداري أو المالي أو الاجتماعي أو غيرها .

فعندئذٍ ما الواجب على الشعوب .. على الناس للخروج من هذا المأزق ؟


هل يستسلمون للواقع المرير ، ويكتفون بالحوقلة ، وينتظرون الفرج من الله دون مدافعة وعمل ، هذا خلاف العقل والشرعِ معاً .

فما العمل إذا جار الحاكم على الناس لكن لم يروا الكفر البواح منه ؟


في حديث أم سلمة رضي الله عنها في صحيح مسلم قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : سيكون بعدي أمراء فتعرفون وتنكرون فمن أنكر فقد برئ ومن كره فقد سلم ، ولكن من رضي وتابع ، قالوا: أفلا ننابذهم بالسيف؟ قال : لا ما أقاموا فيكم الصلاة .

وحديث أم سلمة يجمع ركني التعامل مع أئمة الجور ، فلا يجوز منابذتهم بالسلاح ، ولا يجوز السكوت على منكراتهم .

فقوله : "فمن أنكر فقد برئ" أي فقد برئ من تبعات المنكر كاملة وأدى ما وجب عليه دون نقصان .
وقوله : "ومن كره فقد سلم" أي سلم من أن يكون شريكا في المنكر وإن لم يسلم من تبعاته كلها لأنه لم ينكر .
ولكن من "رضي وتابع" فهذا لم يبرأ ولم يسلم بل هو شريك في الإثم مع الفاعل .

وفي صحيح مسلم أيضاً في حديث الأمراء : "ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون ، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن ، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن ، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن ، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل ."
والجهاد باليد على الأمراء مشروع للقادر ما لم يكن بالسيف نص عليه الإمام أحمد .

وعند الثلاثة قال صلى الله عليه وسلم : "إنَّ الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده ."
وفي سنن أبي داود عن عبد الله بن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :".. ولتأخذن على يدي الظالم ولتأطرنه على الحق أطراً ولتقصرنه على الحق قصرا » ، وفي رواية فيها زيادة "أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض ثم يلعنكم كما لعنهم ."

ولننظر إلى ما حل بأهلنا في جدة من الغرق بسبب أننا رأينا الظالم يسرق ويغش ويرشي ولم نأخذ على يديه فعمنا الله بعقاب من عنده ، وما جرى على أهلنا في تونس ومصر وغيرهما حين تراكم الفساد فتجمع حتى تفجر .

وقد ثبت عند البخاري في تاريخه الكبير وغيره "أن عمر بن الخطاب قال في مجلس، وحوله المهاجرون والأنصار: أرأيتم لو ترخصت في بعض الأمور ما كنتم فاعلين؟ فقال ذلك مرتين، أو ثلاثا: أرأيتم لو ترخصت في بعض الأمور ما كنتم فاعلين؟ فقال بشير بن سعد : لو فعلت ذلك قومناك تقويم القِدْح ـ أي عود السهم ـ فقال عمر: أنتم إذاً أنتم ."

ونحن في العالم الثالث نعيش في هذه الأيام فرصة عظيمة للتصحيح والتغيير للأفضل في العلاقة بين الحاكم والمحكوم .

فالحكام رأوا بأعينهم ما لم يروه من أزمان ، فبعد الذي جرى على صدام حسين ، ثم عمر البشير في السودان وتكتل دول الغرب عليه ، ثم طوفان تونس العظيم ، وما يجري الآن في مصر واليمن والأردن ، وطريقة تعامل التكتلات العالمية في الغرب أو الشرق مع الأنظمة الحاكمة ، وكثرة التقلبات وعدم ثبات الكلمة ، وبراءتهم من عملائهم وخدمهم كما فعلوا مع (ابن علي) ، وموقفهم مما يجري في مصر ، فصديق الأمس عندهم أصبح عدو َاليوم ، بعد هذا يجب أن يصبح من البدهيات : أن تدرك الأنظمة الحاكمة أنها لم يبق لها بعد الله إلا شعوبها ومحبتها لهم .

فالواجب هنا أن تمتد جسور الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بين الحكام والشعوب (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) [آل عمران :110] فكل بحسبه :

من كان يستطيع إيصال النصيحة مباشرة إلى المسؤول فهذا واجبه ، فإن كان الرفق أحرى بقبول النصيحة فليترفق ، وإن كانت الشدة أبلغ في تأثير النصيحة فلا عليه فإن "أَفْضَلُ الْجِهَادِ كَلِمَةُ عَدْلٍ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ ."

ومن لم يستطع فليوصل نصحه بالبرقية أو الفاكس أو بلقاء مدير المكتب وغير ذلك من الوسائل ، مع تتابع النصح على الحاكم أو من ينيبه بخصوص هذا الفاسد .

فإن لم يجدِ ذلك فيجري التشهير به وفضحه في كل ميدان كما قال تعالى (لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ) [النساء : 148] وسرقة أموال المشاريع العامة من الظلم البين ، وإذا كان الزاني والزانية يأمر الله بالتشهير بهما (وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) [النور : 2] ، فكيف بالفساد المالي وسرقة الملايين التي رصدت لحاجة الناس الضرورية ومرافقهم الهامة من المستشفيات والمواصلات والاتصالات وغيرها ؛ فهذه من باب أولى .

وعند أبي داود والبخاري في الأدب المفرد عن ابي هريرة قال " قال رجل : يارسول الله إن لي جارا يؤذيني , فقال : انطلق فاخرج متاعك الى الطريق , فانطلق فاخرج متاعه فاجتمع الناس عليه , فقالوا : ما شأنك ؟ قال : لي جار يؤذيني , فذكرت للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : انطلق فاخرج متاعك الى الطريق , فجعلوا يقولون : اللهم العنه , اللهم اخزيه , فبلغه , فأتاه , فقال : ارجع الى منزلك , فوالله لا اوذيك ."

ولا يلزم أن يقوم أهل العلم والدعوة بذلك لكن لا يمنعون منه ويثنون عليه إن كان وفق ميزان القسط ، في مسائل الخلال عن إسحاق بن إبراهيم بن هانئ قال : حضرت العيد مع أحمد بن حنبل ، فإذا بقاص يقول : على ابن أبي دواد اللعنة ، وحشا الله قبره نارا .
فقال أبو عبد الله : ما أنفعهم للعامة . !
وهذا قيل في وزير الدولة في محفل عام لما تجرأ ودعا الناس إلى بدعة خلق القرآن .

وهؤلاء الفاسدون من المسؤولين والوزراء وأمراء المناطق وأمناء البلديات وأشباههم لن يردعهم إلا الخوف ، ونحن نعيش فرصة من الزمن سانحة من حسن التدبير ألا نضيعها ،

فأقترح الآتي بالنسبة للتعامل مع هذا النوع من المسؤولين وهو الجائر وليس بكافر :


(1) يتم تكوين لجان أهلية احتسابية خاصة بهذا النوع من الفساد يكون لها إدارة تطوعية وحضور بارز على الشبكة للتواصل مع الجمهور ، وليس المقصود من هذه اللجان التحريض ولا يجوز هذا ، بل المراد التقويم ومعالجة القضايا قبل استفحالها ، ولذا كانت اللفظة التي اختارها بشير بن سعد لعمر الفاروق (نقومك تقويم القِدْح( وتقويم عود السهم فيه بري وتهذيب لا كسر ، وقد يحتاج مثل هذا البري حيناً بعد حين إلى حدة مشروعة فإن الوقوف أمام أهواء النفوس يبعث فيها من الغضب الشيطاني والإنتصار للهوى ما هو مشاهد في كل عصر .

وضرورة هذا في إصلاح أمر الولايات مدركة بالعقل قبل النقل ، ولذا تجد في بلاد الغرب سوقاً قائمة على أشدها لمحاسبة المسؤولين من قبل هذه الجهات الأهلية ، وقد أثمر هذا شفافية وصلاحاً في شؤون الدنيا لا يخفى حتى على الأعشى بل والأعمى ، ونحن أحق بهذا منهم ، وقد قال عمرو بن العاص رضي الله عنه كما في صحيح مسلم في شأن الروم : وخامسة حسنة جميلة وأمنعهم من ظلم الملوك ."

(2) من عرف بالفساد يتواطأ الناس من خلال الوسائل الإعلامية والمنابر المتاحة وهي كثيرة على فضحهم بالبرهان الموثوق .

(3) الإلحاح بإرسال البرقيات على محاسبتهم ، ويتقدم المئات لطلب مقابلة المسؤول الأعلى أو من ينوبه لشرح الموقف من هؤلاء المفسدين .

(4) التواصي بالصبر على ذلك مهما طال الزمن وشق العمل حتى يؤتي العمل ثماره .

يتم ترتيب ذلك بأسلوب يجمع القوة والحكمة معاً ، حتى يتم تطهير بلادنا وبلاد المسلمين من الفساد الذي نخر في عظام كثيرة من مجتمعاتنا المسلمة وللأسف الشديد .

وأما من زعم أن نصيحة الوالي لا تكون إلا بالسر للحديث السابق "من أراد أن ينصح لذي سلطان فلا يبده علانية ، ولكن يأخذ بيده فيخلو به فإن قبل منه فذاك وإلا كان قد أدى الذي عليه" والحديث أسانيده قوية وإن كان أعرض عنه أصحاب الكتب الستة ، فلو صح هذا الخبر لكان من العام الذي أريد به الخصوص ، فيكون في المعصية الخاصة دون ما يجهر به ، أو في الوالي العدل الذي لا يقصد الجور لكن يجتهد وقد يكون الحق معه أو مع من نصحه ، أما من ظهر جوره لظلمه أو لضعفه ولم تُجدِ معه نصيحة السر فلا بد من الجهر وإن احتاج الأمر إلى شدة فلا بأس من دون خروج ولا تحريض على خروج .

وهذا هو الجمع بين هذا الحديث وما في معناه والأحاديث التي أمرت بالأخذ على يديه وأطره على الحق وجهاده باليد وهي أحاديث صحاح مشاهير ، وعمل الصحابة والسلف يدل عليه ، كما في أثر عمر السابق ، وفي صحيح مسلم عن حصين بن عبد الرحمن السلمي قال: كنت إلى جنب عمارة بن رويبة السلمي رضي الله عنه والأمير بشر بن مروان يخطب، فلما دعا رفع يديه، فقال عمارة : قبح الله هاتين اليدين رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يخطب إذا دعا يقول هكذا ورفع السبابة وحدها .

وعند مسلم أيضاً عن طارق بن شهاب رضي الله عنه أنه قال : أول من بدأ بالخطبة يوم العيد قبل الصلاة مروان ، فقام إليه رجل ، فقال : الصلاة قبل الخطبة ، فقال : قد ترك ما هنالك ، فقال أبو سعيد : أما هذا فقد قضى ما عليه ؛ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :"من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان ."

ويدل عليه أن القاعدة عند أهل العلم أن من جهر بمعصيته يجهر بالإنكار عليه ففي فتح الباري (17 / 238) قال الحافظ : وقد ذكر النووي أن من جاهر بفسقه أو بدعته جاز ذكره بما جاهر به .

وفي الفتاوى الكبرى (3 / 434) قال شيخ الإسلام ابن تيمية : من فعل شيئا من المنكرات كالفواحش والخمر والعدوان وغير ذلك فإنه يجب الإنكار عليه بحسب القدرة كما قال النبي صلى الله عليه و سلم "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان " فإن كان الرجل متسترا بذلك وليس معلنا له أنكر عليه سرا وسترا عليه كما قال النبي صلى الله عليه و سلم "من ستر عبدا ستره الله في الدنيا والآخرة" إلا أن متعدي ضرره والمتعدي لا بد من كف عدوانه وإذا نهاه المرء سرا فلم ينهه فعل ما ينكف به من هجر وغيره إذا كان ذلك أنفع في الدين ، وأما إذا أظهر الرجل المنكرات وجب الإنكار عليه علانية ولم يبق له غيبة ووجب أن يعاقب علانية بما يردعه عن ذلك من هجر وغيره .

والحاكم أو المسؤول كغيره تبدأه بالرفق والحكمة بل هو أولى من غيره بذلك وتتحين أسباب الإجابة ، فإن لم يستجب كان لابد من الأخذ على يديه شيئا فشيئا بحسب القدرة حتى لا يعمنا الله بعذاب من عنده ، والحاكم والمحكوم كاليدين تنظف كل واحدة منهما الأخرى ، وقد يكون الوسخ يسيراً فينظف من دون عرك ، وقد يحتاج إلى عرك شديد ، وقد قال الله لموسى عليه السلام في أول أمره مع فرعون (اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى)[طه : 43 ، 44] ، فلما ظهر استكباره وعناده قال موسى لفرعون (وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا) [الإسراء : 102]

وختاما ..
ما أجمل أن نكون كما قال صلى الله عليه وسلم : "خِيَارُ أَئِمَّتِكُمُ الَّذِينَ تُحِبُّونَهُمْ وَيُحِبُّونَكُمْ ، وَيُصَلُّونَ عَلَيْكُمْ وَتُصَلُّونَ عَلَيْهِمْ " لا كما في تتمة الحديث "وَشِرَارُ أَئِمَّتِكُمُ الَّذِينَ تُبْغِضُونَهُمْ وَيُبْغِضُونَكُمْ ، وَتَلْعَنُونَهُمْ وَيَلْعَنُونَكُمْ" رواه مسلم ، ومن سنن الله الجارية في كونه أن من أمن العقوبة أساء الأدب حاكماً كان أو محكوماً .

اللهم ولي علينا خيارنا واكفنا شر شرارنا ، وألف بين قلوبنا واجمع كلمتنا على الحق والعدل ، وارزقنا معرفة بمواطن رضاك وقوة فيها وصبراً عليها ، والله الهادي إلى سواء السبيل ، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .


.................

عصام بن صالح العويّد
كلية أصول الدين بالرياض
فجر الاثنين 27/2/1432 هـ
owaid2@gmail.com

0 تعليقات:

إرسال تعليق

المتابعون

Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites More

 
Free Web Hosting