7. أي الناس أحب إليك ؟
تكون أقوى الناس قدرة على استعمال مهارات التعامل مع الآخرين عندما تتعامل مع كل أحد تعاملاً رائعاً يجعله يشعر أنه أحب الناس إليك ..
فتتعامل مع أمك تعاملاً رائعاً مشبعاً بالتفاعل والأنس والاحتفاء إلى درجة أنها تشعر أن هذا التعامل الراقي لم يلقه أحد منك قبلها ..
وقل مثل ذلك عند تعاملك مع أبيك .. مع زوجتك .. أولادك .. زملائك ..
بل قل مثله عند تعاملك مع من تلقاهم مرة واحدة .. كبائع في دكان .. أو عامل في محطة وقود ..
كل هؤلاء تستطيع أن تجعلهم يجمعون على أنك أحب الناس إليهم إذا أشعرتهم أنهم أحب الناس إليك ..
وقد كان r قدوة في ذلك ..
إذ أن من تتبع سيرته .. وجد أنه كان يتعامل بمهارات أخلاقية راقية .. فيعامل كل أحد يلقاه بمهارات من احتفاء وتفاعل وبشاشة .. حتى يشعر ذلك الشخص أنه أحب الناس إليه .. وبالتالي يكون هو أيضاً r أحب الناس إليهم .. لأنه أشعرهم بمحبته ..
كان عمرو بن العاص t داهية من دهاة العرب .. حكمة وفطنة وذكاءً .. فأدهى العرب أربعة .. عمرو واحد منهم ..
أسلم عمرو وكان رأساً في قومه ..
فكان إذا لقي النبي r في طريق رأى البشاشة والبشر والمؤانسة ..
وإذا دخل مجلساً فيه النبي r رأى الاحتفاء والسعادة بمقدمه ..
وإذا دعاه النبي r .. ناداه بأحب الأسماء إليه ..
شعر عمرو بهذا التعامل الراقي .. ودوام الاهتمام والتبسم أنه أحب الناس إلى رسول الله r ..
فأراد أن يقطع الشك باليقين .. فأقبل يوماً إلى النبي r وجلس إليه .. ثم قال :
يا رسول الله .. أي الناس أحب إليك ؟
فقال r : عائشة ..
قال عمرو : لا .. من الرجال يا رسول الله ؟ لست أسألك عن أهلك ..
فقال r : أبوها ..
قال عمرو : ثم من ؟
قال : ثم عمر بن الخطاب ..
قال : ثم أي .. فجعل النبي r يعدد رجالاً .. يقول : فلان .. ثم فلان ..
بحسب سبقهم إلى الإسلام .. وتضحيتهم من أجله ..
قال عمرو : فسكتّ مخافة أن يجعلني في آخرهم ..
فانظر كيف استطاع r أن يملك قلب عمرو بمهارات أخلاقية مارسها معه ..
بل كان عليه الصلاة والسلام ينزل الناس منازلهم ..
وقد يترك أشغاله لأجلهم .. لإشعارهم بمحبته لهم وقدرهم عنده ..
لما توسع r بالفتوحات وبدأ ينتشر الإسلام ..
جعل r يرسل الدعاة من عنده لدعوة القبائل إلى الإسلام .. وربما احتاج الأمر أن يرسل جيشاً ..
وكان عدي بن حاتم الطائي .. ملكاً ابن ملك ..
فوقع بين قبيلته " طي " وبين المسلمين حرب .. وكان عدي قد هرب من الحرب فلم يشهدها .. واحتمى بالروم في الشام ..
وصل جيش المسلمين إلى ديار طيء ..
كانت هزيمة طيء سهلة .. فلا ملك يقود .. ولا جيش مرتب ..
وكان المسلمون في حروبهم .. يحسنون إلى الناس .. ويعطفون وهم في قتال ..
كان المقصود صد كيد قوم عدي عن المسلمين .. وإظهار قوة المسلمين لهم ..
أسر المسلمون بعض قوم عدي .. وكان من بينهم أخت لعدي بن حاتم ..
مضوا بالأسرى إلى المدينة .. حيث رسول الله e .. وأخبروا النبي e بفرار عدي إلى الشام ..
فعجب e من فراره !! كيف يفر من الدين ؟ كيف يترك قومه ؟
ولكن لم يكن إلى الوصول إلى عدي سبيل ..
لم يطب المقام لعدي في ديار الروم .. فاضطر للرجوع لديار العرب .. ثم لم يجد بداً من أن يذهب إلى المدينة للقاء النبي r ومصالحته .. أو التفاهم على شيء يرضيهما .. ([1]) ..
يقول عدي وهو يحكي قصة ذهابه إلى المدينة :
ما رجل من العرب كان أشد كراهة لرسول الله r مني ..
وكنت على دين النصرانية ..
وكنت ملكاً في قومي لما كان يصنع بي .
فلما سمعت برسول الله r كرهته كراهية شديدة ..
فخرجت حتى قدمت الروم على قيصر ..
قال : فكرهت مكاني ذلك ..
فقلت : والله لو أتيت هذا الرجل .. فإن كان كاذباً لم يضرني .. وإن كان صادقاً علمت ..
فقدمت فأتيته .. فلما دخلت المدينة جعل الناس يقولون : هذا عدي بن حاتم .. هذا عدي بن حاتم ..
فمشيت حتى أتيت فدخلت على رسول الله r في المسجد فقال لي : عدي بن حاتم ؟
قلت : عدي بن حاتم ..
فرح النبي r بمقدمه .. واحتفى به .. مع أن عدياً محارب للمسلمين وفارٌ من الحرب .. ومبغض للإسلام .. ولاجئٌ إلى النصارى .. ومع ذلك لقيه r بالبشاشة والبشر .. وأخذ بيده يسوقه معه إلى بيته ..
عدي وهو يمشي بجانب النبي r يرى أن الرأسين متساويان ..!!
فمحمد ( r ) ملك على المدينة وما حولها .. وعدي ملك على جبال طي وما حولها ..
ومحمد ( r ) على دين سماوي " الإسلام " .. وعدي على دين سماوي " النصرانية " ..
ومحمد ( r ) عنده كتاب منزل " القرآن " .. وعدي عنده كتاب منزل " الإنجيل " ..
كان عدي يشعر أنه لا فرق بينهما إلا في القوة والجيش ..
في أثناء الطريق وقعت ثلاثة مواقف :
بينما هما يمشيان إذا بامرأة قد وقفت في وسط الطريق فجعلت تصيح : يا رسول الله .. لي إليك حاجة ..
فانتزع النبي r يده من يد عدي ومضى إليها .. وجعل يستمع إلى حاجتها ..
عدي بن حاتم .. الذي قد عرف الملوك والوزراء جعل ينظر إلى هذا المشهد .. ويقارن تعامل النبي r مع الناس بتعامل من رآهم من قبل من الرؤساء والسادة ..
فتأمل طويلاً ثم قال : والله ما هذه بأخلاق الملوك .. هذه أخلاق الأنبيااااااء ..
وانتهت المرأة من حاجتها .. فعاد النبي r إلى عدي .. ومضيا يمشيان .. فبينما هما كذلك .. فإذا برجل يقبل على النبي r ..
فماذا قال الرجل ؟ هل قال : يا رسول الله عندي أموال زائدة أبحث لها عن فقير ؟! أم قال : حصدت أرضي وزاد عندي الثمر .. فماذا أفعل به ؟
يا ليته قال شيئاً من ذلك .. لعل عدياً إذا سمعه يشعر بغنى المسلمين وكثرة أموالهم ..
قال الرجل : يا رسول الله .. أشكو إليك الفاقة والفقر ..
ما يكاد هذا الرجل يجد طعاماً يسد به جوعة أولاده .. ومن حوله من المسلمين يعيشون على الكفاف ليس عندهم ما يساعدونه به ..
قال الرجل هذه الكلمات وعدي يسمع .. فأجابه النبي r بكلمات ومضى ..
فلما مشيا خطوات .. أقبل رجل آخر .. قال : يا رسول الله أشكو إليك قطع الطريق !!
يعني أننا يا رسول الله لكثرة أعدائنا حولنا لا نأمن أن نخرج عن بنيان المدينة لكثرة من يعترضنا من كفار أو لصوص ..
أجابه النبي r بكلمات ومضى ..
جعل عدي يقلب الأمر في نفسه .. هو في عز وشرف في قومه .. وليس له أعداء يتربصون به ..
فلماذا يدخل هذا الدين الذي أهله في ضعف ومسكنة .. وفقر وحاجة ..
وصلا إلى بيت النبي r .. فدخلا .. فإذا وسادة واحدة فدفعها النبي r إلى عدي إكراماً له .. وقال : خذ هذه فاجلس عليها .. فدفعها عدي إليه قال : بل اجلس عليها أنت .. فقال r : بل أنت .. حتى استقرت عند عدي فجلس عليها ..
عندها .. بدأ النبي r يحطم الحواجز بين عدي والإسلام ..
يا عدي أسلم .. تسلم .. أسلم تسلم .. أسلم تسلم ..
قال عدي : إني على دين ..
فقال r : أنا أعلم بدينك منك ..
قال : أنت تعلم بديني مني ؟
قال : نعم .. ألست من الركوسية ..
والركوسية ديانة نصرانية مشرّبة بشيء من المجوسية .. فمن مهارته r في الإقناع أنه لم يقل ألست نصرانياً .. وإنما تجاوز هذه المعلومة إلى معلومة أدق منها فأخبره بمذهبه في النصرانية تحديداً ..
كما لو لقيك شخص في أحد بلاد أوروبا وقال لك : لماذا لا تتنصر ؟ فقلت : إني على دين ..
فلم يقل لك : ألست مسلماً .. ولم يقل : ألست سنُيّاً .. وإنما قال : ألست شافعياً .. أو حنبلياً ..
عندها ستدرك أنه يعرف كل شيء عن دينك ..
فهذا الذي فعله المعلم الأول r مع عدي .. قال : ألست من الركوسية ..
فقال عدي : بلى ..
فقال r : فإنك إذا غزوت مع قومك تأكل فيهم المرباع ؟ ([2])
قال : بلى ..
فقال r : فإن هذا لا يحل لك في دينك ..
فتضعضع لها عدي .. وقال : نعم ..
فقال r : أما إني أعلم الذي يمنعك من الإسلام ..
أنك تقول : إنما اتبعه ضعفة الناس ومن لا قوة لهم ..
وقد رمتهم العرب ..
يا عدي .. أتعرف الحيرة ؟ ([3])
قلت : لم أرها وقد سمعت بها ..
قال : فوالذي نفسي بيده ليتمن الله هذا الأمر حتى تخرج الظعينة من الحيرة حتى تطوف بالبيت في غير جوار أحد ..
أي سيقوى الإسلام إلى درجة أن المرأة المسلمة الحاجة تخرج من الحيرة حتى تصل إلى مكة ليس معها إلا محرم .. من غير أحد يحميها .. وتمر على مئات القبائل فلا يجرؤ أحد أن يعتدي عليها أو يسلبها مالها .. لأن المسلمين صار لهم قوة وهيبة .. إلى درجة أن أحداً لا يجرؤ على التعرض لمسلم خوفاً من انتصار المسلمين له ..
فلما سمع عدي ذلك .. جعل يتصور المنظر في ذهنه .. امرأة تخرج من العراق حتى تصل إلى مكة .. معنى ذلك أنها ستمر بشمال الجزيرة .. يعني ستمر بجبال طي .. ديار قومه ..
فتعجب عدي وقال في نفسه : فأين عنها ذُعّار طي الذين سعروا البلاد !!
ثم قال r : وليفتحن كنوز كسرى بن هرمز ..
قال : كنوز ابن هرمز ؟
قال : نعم كسرى بن هرمز .. ولتنفقن أمواله في سبيل الله ..
قال r : ولئن طالت بك حياة لترين الرجل يخرج بملء كفه من ذهب أوفضة يطلب من يقبله منه فلا يجد أحدا يقبله منه ..
يعني من كثرة المال يخرج الغني يطوف بصدقته لا يجد فقيراً يعطيه إياها ..
ثم بدأ e يعظ عدياً ويذكره بالآخرة .. فقال :
وليلقين اللهَ أحدُكم يوم يلقاه ليس بينه وبينه ترجمان ، فينظر عن يمينه فلا يرى إلا جهنم ، وينظر عن شماله فلا يرى إلا جهنم " ..
سكت عدي متفكراً ..
ففاجأه e قائلاً : يا عدي .. فما يفرك أن تقول لا إله إلا الله ؟.. أو تعلم من إله أعظم من الله ؟!
قال عدي : فإني حنيف مسلم .. أشهد أن لا إله إلا الله .. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ..
فتهلل وجه النبي r فرحاً مستبشراً ..
قال عدي بن حاتم :
فهذه الظعينة تخرج من الحيرة تطوف بالبيت في غير جوار ..ولقد كنت فيمن فتح كنوز كسرى ..
والذي نفسي بيده لتكونن الثالثة لأن رسول الله r قد قالها " .. ([4])
فتأمل كيف كان هذا الأنس منه e لعدي .. وهذا الاحتفاء الذي قابله به .. حتى شعر به عدي .. تأمل كيف كان كل ذلك جاذباً لعدي للدخول في الإسلام ..
فلو مارسنا هذا الحب مع الناس .. مهما كانوا .. لملكنا قلوبهم ..
فكرة ..
بالرفق واستعمال مهارات التعامل والإقناع .. نستطيع أن نحقق ما نريد ..
0 تعليقات:
إرسال تعليق