عائشة و التمر و قطرت زمزم - الجزء الثاني و الأخير:

عائشة و التمر و قطرت زمزم - الجزء الثاني و الأخير:

دخلت عائشة مطبخها الصغير..
و قبل أن تعد التمر..
جلست قليلا حذو النافذة..
فكرت في أمر كاد الشيطان أن ينسيها فيه..
لقد تعودت أو عودت ربها.. بأن يكون لها وسط كل عمل "مشترك" (أي علني أو جهري) .. عمل "مستور" (أي مخفي لا يعلمه الا الله)..
و طبعا من يوم زواجها و أغلب أعمالها تحتاج فيها الى مساعدة أحمد, فأصبحت في كل عمل مع زوجها, تحاول أن تضيف شيئا الى العمل نفسه لا يتفطن له حتى زوجها.. عمل بينها و بين ربها.. لا تطمع حتى أن تتشفع به في الدنيا.. عمل تدخره ليوم يكلمها ربها بغير حجاب.. فإما أن تكون يومها من السعداء.. و يذكرها الحي القيوم بأمعالها هذه.. تبكي و هي تتشوق لسماعها من خالقها.. من ربها..
رباه.. مجرد التخيل يجعلها تبكي ساعات.. حتى أن زوجها أحيانا يلاحظ ذلك.. لكن أبدا.. لك تكشف سرها يوما لأحد.. الموت أهون عليها من أن تقابل ربها و لا تجد للقاء عدة..
هذا ان كانت من السعداء..
أما و العياذ بالله ان كانت غير ذلك.. فتحتسب أن يشفع فيها ربها يومها أعمالها الخفية.. قد لا تقوى هي أن تذكرها أمامه سبحانه.. يا ويلتاه.. أستحي.. لكن بكرمه و جوده.. سيخبرها أن أعمالها الخفية هي التي شفعت فيها لتدخل الجنة..
المهم أن هذا هو هاجسها مع كل عمل تقوم به..
و هذا كنزها الحقيقي: أعمالها الخفية..
لهذا لم يصبها يوم عجبا بأعمالها مع أحمد و مع غيره.. كل الأعمال الجهرية تعتبر نفسها دخيلة عليها.. و لا تحدثها نفسها بها اطلاقا..
هذه أعمال اطلع عليها الخلق.. و لا ندري ان قبلها الخالق.. فبما نعجب؟
لكن أعمالها بينها و بين ربها.. هذه هي ثروتها الحقيقية.. هذا عالمها الحقيقي.. هذا الذي يقيمها من نومها لمناجاة ربها.. نعم.. لم تستطع قيام الليل الا بعد أن بدأت هذه الأعمال الخفية.. أصبحت تنتظر متى ينام زوجها نومته العميقة حتى تتسلل خفية من الفراش.. و تتوضأ خلسة.. في المطبخ حتى لا يحس زوجها و لا جارتها التي تحتها.. فقد سبق أن لاحظت عليها أنها تسمع صوت الحمام آخر الليل..
و تمتطي سجادتها لتناجي ربها: رباه.. أقبلت مني ما وفقتني اليه من عمل ثم وفقتني الى كتمانه..؟
رباه.. أرضيت عني اليوم؟ ...
قبل هدايتها.. كانت كلما تقوم بعمل صالح.. تنتظر أمها رحمها الله أو صديقتها بفارغ الصبر حتى تخبرها بعملها و هي مستبشرة..
و حتى بعد الهداية كانت من حبها لزوجها.. تخبره كل يوم بكل أعمالها..
لكن من يوم أن أصبح لها أعمالها الخاصة و هي لا تجد لمن تبوح بسرها.. و لم تجد الا الذي ترجو رضاه بذلك العمل.. فأصبحت تنتظر جوف الليل بشوق و لهفة..
لتبوح لربها و تثني عليه..
...
المهم في هذا العمل بالذات (توزيع التمر).. فكرت: ماذا ستكون اضافتها؟ أين ستضع سرّها؟.. اللهم خرلي و اخترلي..
لم يطل التفكير.. فقد ألهمها الله فكرة جنّتيّة..
هناك القليل من زمزم الذي تحتفظ به من مدة.. أحظره أحمد من عمرته..
و كانت كلما قرأت القرآن.. تضع هذه القارورة زمزم أمامها (بالنّيّة) و كلّما ختمت القرآن.. دعت لكل من سيشرب من هذه القطرات بخيري الدنيا و الآخرة.. طبعا.. لا أحد يعلم بكل هذه الأمور.. و لا حتى زوجها..
و كلما مرض أحد في العائلة أو غيره.. الا و أعطته قطرات من ذاك الماء مخلوطا بالعسل.. و سبحان الله كان الناس يشفون بشرب ذاك العسل.. فيعتقدون أن العسل هو سبب الشفاء.. و كانت توافقهم على هذا.. بل تذكرهم بنصيحة الرسول لنا صلى الله عليه و سلم بالتداوي بالعسل.. و أن الله سبحانه ذكره في القرآن..
المهم أنها ترى في قطرات الزمزم التي لديها.. أنهار الدموغ التي ذرفتها و هي تقرأ القرآن و تبكي و القارورة بجانبها.. كأن الله سبحانه وضع كل دعواتها و سجداتها و دمعاتها في تلك القطرات المباركة..
فكانت من أغلى ما عندها..
فكرت اليوم.. أن تضع القليل من تلك القطرات في كل تمرة.. تخلطها بالقوتة (اللبن المجمد) و تضعها في التمر..
ثم فكرت في أن تحسن أكثر من هذا.. تريد أن تتعب.. سبحان الله أكثر ما يسرها هو أن تتعب حتى تعرق في سبيل الله.. أما هذا العمل و بهذه الطريقة فهو سهل..
ألهما الله فكرة أخرى.. أخذت القارورة و دخلت مصلاها و بدأت تقرأ ما تيسر لها.. قرأت البقرة و دعت للجيران بحفظهم من الشيطان.. قرأت الواقعة و دعت الله أن يحفظهم من الفاقة و الفقر و أن يقضي الله ديونهم.. قرأت المنجيات السبع.. قرأت الفاتحة بدون حساب.. قرأت كل ما تعرف من سور لها فضل معين و تدعو بين السورة و الأخرى ما تيسر للجيران..
الى أن عاد أحمد..
فوضعت قطرات زمزم على التمر.. و القوتة..
طبعا بعد ان اختارت أجمل التمرات..
و زينتها فأحسنت زينتها..
و وضعت كل سبعة في كيس بلاستيك جميل..
و أعدت عشرين كيسا (أحمد طلب عشرة.. لكن زادت في الكمية (بالكشي ربي يهديه و يكمل يفرقهم)..
خرج أحمد مباشرة للتوزيع..
طرق أول باب.. خرجت له امرأة سمينة و كبيرة.. و رغم شيبتها الا أنها لم تغطي شعرها بل على العكس..
غض بصره و مدّ التمر و ربما منشؤم نظرته لها نسى ما كان سيقوله.. فقدم التمر و سكت.. فقالت له: "من أنت؟ ماذا تريد؟" قال "أنا جاركم الي تحتكم أحمد كذا.. جبتلكم تمر من عند المرا.." فصرخت في وجهه: " إيييي... خدوجة قبلكم سحرتلي الكبيرة.. كملو انتوما اسحرولي الصغيرة.. باهي ياسر.." فصدم مرة أخرى.. ثم ردت الباب على وجهه.. من الصدمة بقي متسمرا في مكانه.. و الشيطان يحاول أن يقنعه بالعودة الى بيته (برّا روح.. هالمشاكل الّي تجيب فيها لروحك.. تمزبيل و عرك.. طيّش عليك..) لكن سرعان ما أعيد فتح الباب.. ليخرج له شاب مأدب.. قال له" سامحني.. أمّي مسكينة مريضة بأعصابها.. و هي تمر بفترة صعبة.. متأسف جدا لما حصل.. تفضل.." هدأ أحمد و تمالك نفسه و أخبره بالموضوع.. فقال الشاب – و كان يبدو عيه مسحة من التدين " جزاكم الله خيرا.. سبع تمرات ما شاء الله.. على السنّة..الخ" و بعد دقيقتين تم اللقاء باتفاق على أن يلتقيا مرة أخرى.. و ختم الشاب " أحبك في اله" فاستبشر أحمد و قال "أحبك الذي أحببتني فيه" و أحس أحمد بأنه أخذ جرعة ايمانية تكفيه ليوزع ألف كيس..
و فعلا.. من جار الى جال.. وجد أن الأمر سهل بل ممتع.. كم من وجوه خير اكتشفها كان سيحرم منها.. و كم من جار له في ظائقة أو مرض أو مشكلة.. و هو "مولا الدار موش هنا" أي "ولا على بالو"..
في أقل من ربع ساعة أتم العمارة.. لم يجد بعظهم فترك لهم التمر أمام الباب و كتب كلمة على الكارت فيزيت.. (علّق الكيس على الباب)..
ثم مر بجاره ذاك.. الذي عفا عنه.. لم يفتح أحد.. فلما دق على الجار المقابل.. أخبروه أن ذاك الرجل مات في بيته..و أن هذا المنزل كان مخصصه للمتعة الحرام.. و أن الله هداه بعد ذلك و توفاه في بيته بين زوجته و أولاده.... و أن الله رزقه حسن الخاتمة اذ مات و هو يقرأ القرآن..يوم جمعة بعد صلاة الجمعه !! سبحان الله!!! ما أرحمك يا رب.. و في نفس الوقت تألم أحمد.. فكم كان مقصرا في حق الجيرة.. هذا يمرض و الآخر يموت هو لا يدري شيئا.. رحماك يا رب.. لكن فرحته بحسن خاتمة الجار غلبت ألمه.. قد يشفعه الله فيهما.. خاصة أنهما سامحاه من يومها.. رحمه الله..
بعد وقت قصير عاد الى البيت..
استقبلته زوجته "هاه.. بشّر.." قال: "أتممت العشرين و الحمد لله" فقالت "أتريد أن نتم الأربعين؟" قال "يا ريت.. كم يلزمك وقت للإعداد؟" ابتسمت و دخلت للمطبخ ثم عادت اليه بالعشرين كيس و هي تقول مبتسمة : " كنت أعلم أن زوجي لن يكتفي بالفتات.. و أنه لن يطمئن الا اذا اكرم الأربعين جار.. دمت لنا.."
خرج أحمد و لم يعمل حسابات كثيرة.. في ربع ساعة أتم العشرين بين نظرات الاعجاب و الاستغراب و الحب..
ربما لم يتوقع أن تكون التجربة بهذا العمق.. ساعة واحدة وفقه الله فيها ليتبع أمر حبيبه صلى الله عليه و سلم باكرام الأربعين جار.. بل أكثر من هذا.. عاد المرضى و عزى أهل الموتى و واسى المصابين بهموم الدنيا و وفقه الله الى أربعة اخوة في الله.. اتفق معهم على برامج خير مختلفة.. أبسطها أن يتزاوروا في الله و يتجالسوا في الله.. الحمد لله أولا و أخيرا..
...
هل هي بركة قطرات زمزم؟ هل هي بركة النية الصادقة و العزم و الجدية في المتثال لأوامر الله؟ هل هي بركة العمل الخالص لله؟ الله أعلم.. لكن من تقرب منه شبرا.. تقرب الله سبحانه منه ذراعا.. و من أتاه مشيا.. أتاه هرولة.. لا اله الا الله..

0 تعليقات:

إرسال تعليق

المتابعون

Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites More

 
Free Web Hosting