مع المخالفين

1. مع المخالفين ..

الكفار .. كان r يعاملهم بالعدل .. ويستميت في سبيل دعوتهم وإصلاحهم .. ويتحمل أذاهم ..

ويتغاضى عن سوئهم .. كيف لا .. وقد قال له ربه : ( وما أرسلناك إلا رحمة ) .. لمن ؟! للمؤمنين ؟! لا .. ( إلا رحمة للعالمين ) ..

وتأمل حال اليهود.. يذمونه ويبتدئون بالعداوة .. ومع ذلك يرفق بهم ..

وعن عائشة قالت : إن اليهود مروا ببيت النبي r فقالوا :

السام عليكم ( أي : الموت عليك ) ..

فقال r : وعليكم ..

فلم تصبر عائشة لما سنعتهم .. فقالت : السام عليكم .. ولعنكم الله وغضب عليكم ..

فقال e : مهلاً يا عائشة .. عليك بالرفق .. وإياك والعنف والفحش ..

فقالت : أو لم تسمع ما قالوا ؟

فقال : أو لم تسمعي ما قلت ؟! رددت عليهم فيستجاب لي .. ولا يستجاب لهم فيّ ..

نعم .. ما الداعي إلى مقابلة السباب بالسباب ! أليس الله قد قال له : ( وأعرض عن الجاهلين ) ..

وفي يوم .. خرج e مع أصحابه في غزوة ..

فلما كانوا في طريق عودتهم .. نزلوا في واد كثير الشجر ..

فتفرق الصحابة تحت الشجر وناموا .. وأقبل e إلى شجرة فعلق سيفه بغصن من أغصانها .. وفرش رداءه ونام ..

في هذه الأثناء كان رجل من المشركين يتبعهم ..

فلما رأى رسول الله e خالياً .. أقبل يمشي بهدوء .. حتى التقط السيف من على الغصن .. وصاح بأعلى صوته :

يا محمد .. من يمنعك مني ؟

فاستيقظ رسول الله e .. والرجل قائم على رأسه .. والسيف صلتاً في يده .. يلتمع منه الموت ..

الرسول e وحيداً .. ليس عليه إلا إزار .. أصحابه متفرقون عنه .. نائمون ..

والرجل يعيش نشوة القوة والانتصار .. ويردد : من يمنعك مني ؟ من يمنعك مني ؟

فقال e بكل ثقة : الله ..

فانتفض الرجل وسقط السيف ..

فقام e والتقط السيف وقال : من يمنعك مني ؟

فتغير الرجل .. واضطرب .. وأخذ يسترحم النبي e .. ويقول : لا أحد .. كن خير آخذ ..

فقال له e : تسلم ؟

قال : لا .. ولكن لا أكون في قوم هم حرب لك ..

فعفا عنه e .. وأحسن إليه !!

وكان الرجل ملكاً في قومه .. فانصرف إليهم فدعاهم إلى الإسلام .. فأسلموا ..

نعم .. أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم ..

بل حتى مع الأعداء الألداء كان r له خلق عظيم .. كسب به نفوسهم .. وهدى قلوبهم .. ودحر به كفرهم ..

لما ظهر e بدعوته بين الناس .. جعلت قريش تحاول حربه بكل سبيل ..

وكان مما بذلته أن تشاور كبارها في التعامل مع دعوته e .. وتسارع الناس للإيمان به ..

فقالوا : أنظروا أعلمكم بالسحر والكهانة والشعر فليأت هذا الرجل الذي فرق جماعتنا .. وشتت أمرنا .. وعاب ديننا .. فليكلمه ولينظر ماذا يرد عليه ..

فقالوا : ما نعلم أحدا غير عتبة بن ربيعة ..

فقالوا : أنت يا أبا الوليد ..

وكان عتبة سيداً حليماً ..

فقال : يا معشر قريش .. أترون أن أقوم إلى هذا فأكلمه .. فأعرض عليه أموراً لعله أن يقبل منها بعضها ..

قالوا : نعم يا أبا الوليد ..

فقام عتبة وتوجه إلى رسول الله e ..

دخل عليه .. فإذا e جالس بكل سكينة ..

فلما وقف عتبة بين يديه .. قال : يا محمد ! أنت خير أم عبد الله ؟!

فسكت رسول الله e .. تأدباً مع أبيه عبد الله ..

فقال : أنت خير أم عبد المطلب ؟

فسكت e .. تأدباً مع جده عبد المطلب ..

فقال عتبة : فإن كنت تزعم أن هؤلاء خير منك فقد عبدوا الآلهة التي عِبْتَ .. وإن كنت تزعم أنك خير منهم .. فتكلم حتى نسمع قولك ..

وقبل أن يجيب النبي e بكلمة .. ثار عتبة وقال :

إنا والله ما رأينا سخلة قط أشأم على قومه منك !!.. فرقت جماعتنا .. وشتت أمرنا .. وعبت ديننا .. وفضحتنا في العرب .. حتى لقد طار فيهم أن في قريش ساحراً .. وأن في قريش كاهناً .. والله ما ننتظر إلا مثل صيحة الحبلى .. أن يقوم بعضنا إلى بعض بالسيوف حتى نتفانى ..

كان عتبة متغيراً غضباناً .. والنبي e ساكت يستمع بكل أدب ..

وبدأ عتبة يقدم إغراءات ليتخلى النبي e عن الدعوة .. فقال :

أيها الرجل إن كنت جئت بالذي جئت به لأجل المال .. جمعنا لك حتى تكون أغنى قريش رجلاً ..

وان كنت إنما بك حب الرئاسة .. عقدنا ألويتنا لك فكنت رأساً ما بقيت ..

وإن كان إنما بك الباه والرغبة في النساء .. فاختر أيَّ نساء قريش شئت فلنزوجك عشراً ..!!

وان كان هذا الذي يأتيك رئياً من الجن تراه .. لا تستطيع رده عن نفسك .. طلبنا لك الطب .. وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه .. فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يتداوى منه ..

ومضى عتبة يتكلم بهذا الأسلوب السيء مع رسول الله e .. ويعرض عليه عروضاً ويغريه .. والنبي عليه الصلاة والسلام ينصت إليه بكل هدوء ..

وانتهت العروض .. ملك .. مال .. نساء .. علاج من جنون !!

سكت عتبة .. وهدأ .. ينتظر الجواب ..

فرفع النبي عليه الصلاة والسلام بصره إليه وقال بكل هدووووء :

أفرغت يا أبا الوليد ؟

لم يستغرب عتبة هذا الأدب من الصادق الأمين .. بل قال باختصار : نعم ..

فقال e : فاسمع مني ..

قال : أفعل ..

فقال e : بسم الله الرحمن الرحيم " حم * تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ .. ) ..

ومضى النبي عليه الصلاة والسلام .. يتلوا الآيات وعتبة يستمع ..

وفجأة جلس عتبة على الأرض .. ثم اهتز جسمه ..

فألقى يديه خلف ظهره .. واتكأ عليهما ..

وهو يستمع .. ويستمع .. والنبي يتلو .. ويتلو ..

حتى بلغ قوله تعالى ..

( فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ ) .. فانتفض عتبة لما سمع التهديد بالعذاب .. وقفز ووضع يديه على فم رسول الله e .. ليوقف القراءة ..

فاستمر e يتلو الآيات .. حتى انتهى إلى الآية التي فيها سجدة التلاوة .. فسجد ..

ثم رفع رأسه من سجوده .. ونظر إلى عتبة وقال : سمعت يا أبا الوليد ؟

قال : نعم ..

قال : فأنت وذاك ..

فقام عتبة يمشي إلى أصحابه .. وهم ينتظرونه متشوقين ..

فلما أقبل عليهم .. قال بعضهم لبعض : نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به ..

فلما جلس إليهم .. قالوا : ما وراءك يا أبا الوليد ؟

فقال : ورائي أني والله سمعت قولاً ما سمعت مثله قط .. والله ما هو بالشعر .. ولا السحر .. ولا الكهانة ..

يا معشر قريش : أطيعوني واجعلوها بي .. خلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه .. فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت منه نبأ عظيم ..

يا قوم !! قرأ بسم الله الرحمن الرحيم " حم * تنزيل من الرحمن الرحيم " حتى بلغ : " فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود " فأمسكته بفيه .. وناشدته الرحم أن يكف .. وقد علمتم أن محمداً إذا قال شيئاً لم يكذب .. فخفت أن ينزل بكم العذاب ..

ثم سكت أبو الوليد قليلاً متفكراً .. وقومه واجمون يحدون النظر إليه ..

فقال : والله إن لقوله لحلاوة .. وإن عليه لطلاوة .. وإن أعلاه لمثمر .. وإن أسفله لمغدق .. وإنه ليعلو وما يعلى عليه .. وإنه ليحطم ما تحته .. وما يقول هذا بشر .. وما يقول هذا بشر ..

قالوا : هذا شعر يا أبا الوليد .. شعر ..

فقال : والله ما رجل أعلم بالأشعار مني .. ولا أعلم برجزه ولا بقصيده مني .. ولا بأشعار الجن .. والله ما يشبه هذا الذي يقول شيئاً من هذا ..

ومضى عتبة يناقش قومه في أمر رسول الله e .. صحيح أن عتبة لم يدخل في الإسلام .. لكن نفسه لانت للدين ..

فتأمل كيف أثر هذا الخلق الرفيع .. ومهارة حسن الاستماع في عتبة مع أنه من أشد الأعداء ..

وفي يوم آخر ..

تجتمع قريش .. فينتدبون حصين بن المنذر الخزاعي .. وهو أبو الصحابي الجليل عمران بن حصين ..

ينتبونه لنقاش النبي عليه الصلاة والسلام ورده عن دعوته ..

يدخل أبو عمران على النبي e وحوله أصحابه .. فيردد عليه ما تردده قريش دوماً .. فرقت جماعتنا .. شتت شملنا .. والنبي e ينصت بلطف ..

حتى إذا انتهى .. قال له e بكل أدب ..

أفرغت يا أبا عمران ..

قال : نعم ..

قال : فأجبني عما أسألك عنه ..

قال : قل .. أسمع ..

فقال e : يا أبا عمران .. كم إلهاً تعبد اليوم ؟

قال : سبعة ..!! ستة في الأرض .. وواحداً في السماء ..!!

قال : فأيهم تعد لرغبتك ورهبتك ؟

قال : الذي في السماء ..

فقال e بكل لطف : يا حصين أما إنك لو أسلمت علمتك كلمتين ينفعانك ..

فما كان من حصين إلا أن أسلم في مكانه فوراً ..

ثم قال : يا رسول الله .. علمني الكلمتين اللتين وعدتني ..

فقال e : قل : اللهم ألهمني رشدي .. وأعذني من شر نفسي ..

آآآه ما أروع هذا التعامل الراقي ! وشدة تأثيره في الناس عند مخالطتهم ..

وهذا التعامل الإسلامي الدعوي يفيد في دعوة الكفار وجذبهم إلى الخير ..

سافر أحد الشباب للدراسة في ألمانيا فسكن في شقة .. وكان يسكن أمامه شاب ألماني ، ليس بينهما علاقة ، لكنه جاره ..

سافر الألماني فجأة .. وكان موزع الجرائد يضع الجريدة كل يوم عند بابه .. انتبه صاحبنا إلى كثرة الجرائد .. سأل عن جاره .. فعلم أنه مسافر ..

لَـمَّ الجرائد ووضعها في درج خاص .. وصار يجمعها كل يوم ويرتبها ..

لما رجع صاحبه بعد شهرين أو ثلاثة .. سلم عليه وهنأه بسلامة الرجوع .. ثم ناوله الجرائد ..وقال له : خشيت أنك متابع لمقال .. أو مشترك في مسابقة .. فأردت أن لا يفوتك ذلك ..

نظر الجار إليه متعجباً من هذا الحرص .. فقال : هل تريد أجراً أو مكافأة على هذا ؟

قال صاحبنا : لا .. لكن ديننا يأمرنا بالإحسان إلى الجار .. وأنت جار فلا بد من الإحسان إليك

ثم ما زال صاحبنا محسناً إلى ذلك الجار .. حتى دخل في الإسلام ..

هذه والله هي المتعة الحقيقية بالحياة .. أن تشعر أنك رقم على اليمين .. تتعبد لله بكل شيء حتى بأخلاقك ..

وكم صدَّ أعداداً كبيرة من الكفار عن الدخول في الإسلام تعاملات فريق من المسلمين معهم .. فيظلمونهم عمالاً .. ويغشونهم متسوقين .. ويؤذونهم جيراناً ..

فهلمَّ نبدأ من جديد معهم ..

إضاءة ..

خير الداعين من يدعو بأفعاله قبل أقواله ..

0 تعليقات:

إرسال تعليق

المتابعون

Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites More

 
Free Web Hosting