اخنر الكلام المناسب

اختر الكلام المناسب ..

يتبع ما سبق أيضاً طريقة الكلام مع الناس ونوعية الأحاديث التي تثار معهم ..

فإذا جلست مع أحد فأثر الأحاديث المناسبة له ..

وهذا من طبيعة البشر .. فالأحاديث التي تثيرها مع شاب تختلف عن الأحاديث مع الشيخ ..

ومع العالم تختلف عن الجاهل ..

ومع الزوجة تختلف عن الأخت ..

لا أعني الاختلاف التام .. بحيث إن القصة التي تحكيها للأخت لا يصح أن تحكيها للزوجة ! أو التي تذكرها للشاب لا يصح أن يسمعها الشيخ !! لا ..

وإنما أعني الاختلاف اليسير الذي يطرأ على أسلوب عرض القصة وربما كيانها كله ..

وبالمثال يتضح المقال ..

لو جلست مع ضيوف كبار في السن جاوزت أعمارهم الثمانين أقبلوا زائرين لجدك .. فهل من المناسب أن تقص عليهم وأنت ضاحك مستبشر قصتك لما ذهبت مع زملائك للبر ؟! وكيف أن فلاناً سجل هدفاً أثناء لعب الكرة .. وكيف ثبت الكرة برأسه ثم ضربها بركبته .. لا شك أنه غير مناسب ..

وكذلك لو تحدثت مع أطفال صغار .. من غير المناسب أن تذكر لهم قصصاً تتعلق بتعامل الأزواج مع زوجاتهم ..

أظننا نتفق على ذلك ..

إذن من أساليب جذب الناس اختيار الأحاديث التي يحبونها .. وإثارتها ..

كأب له ولد متفوق .. من المناسب أن تسأله عنه .. لأنه بلا شك يفخر به ويحب أن يذكره دائماً ..

أو رجل فتح دكاناً وكسب منه أرباحاً .. فمن المناسب أن تسأله عن دكانه وإقبال الناس عليه .. لأن هذا يفرحه .. وبالتالي يحبك ويحب مجالستك ..

وقد كان النبي r يراعي ذلك ..

فحديثه مع الشاب يختلف عن حديثه مع الشيخ .. أو المرأة .. أو الطفل ..

جابر بن عبد الله t الصحابي الجليل .. قتل أبوه في معركة أحد .. وخلف عنده تسع أخوات ليس لهن عائل غيره .. وخلف ديناً كثيراً .. على ظهر هذا الشاب الذي لا يزال في أول شبابه ..

فكان جابر دائماً ساهم الفكر .. منشغل البال بأمر دَينه وأخواته .. والغرماء يطالبونه صباحاً ومساءً ..

خرج جابر مع النبي r في غزوة ذات الرقاع .. وكان لشدة فقره على جمل كليل ضعيف ما يكاد يسير .. ولم يجد جابر ما يشتري به جملاً .. فسبقه الناس وصار هو في آخر القافلة ..

وكان النبي r يسير في آخر الجيش .. فأدرك جابراً وجمله يدبُّ به دبيباً .. والناس قد سبقوه ..

فقال النبي r : مالك يا جابر ؟

قال : يا رسول الله أبطأ بي جملي هذا ..

فقال النبي r : أنخه ..

فأناخه جابر وأناخ النبي r ناقته ..

ثم قال : أعطني العصا من يدك أو اقطع لي عصا من شجرة ..فناوله جابر العصا ..

برَكَ الجمل على الأرض كليلاً ضعيفاً ..

فأقبل e إلى الجمل وضربه بالعصا شيئاً يسيراً ..

فنهض الجمل يجري قد امتلأ نشاطاً .. فتعلق به جابر وركب على ظهره ..

مشى جابر بجانب النبي e .. فرحاً مستبشراً .. وقد صار جمله نشيطاً سابقاً ..

التفت e إلى جابر .. وأراد أن يتحدث معه ..

فما هي الأحاديث التي اختارها النبي e ليثيرها مع جابر ..

جابر كان شاباً في أول شبابه ..

هموم الشباب في الغالب تدور حول الزواج .. وطلب الرزق ..

قال e : يا جابر .. هل تزوجت ..؟

قال جابر : نعم ..

قال : بكراً .. أم ثيباً ..

قال : بل ثيباً ..

فعجب النبي e كيف أن شاباً بكراً في أول زواج له .. يتزوج ثيباً ..

فقال ملاطفاً لجابر : هلا بكراً تلاعبها وتلاعبك ..

فقال جابر : يا رسول الله .. إن أبي قتل في أحد .. وترك تسع أخوات ليس لهن راعٍ غيري .. فكرهت أن أتزوج فتاة مثلهن فتكثر بينهن الخلافات .. فتزوجت امرأة أكبر منهن لتكون مثل أمهن ..

هذا معنى كلام جابر ..

رأى النبي e أن أمامه شاب ضحى بمتعته الخاصة لأجل أخواته ..

فأراد e أن يمازحه بكلمات تصلح للشباب .. فقال له :

لعلنا إذا أقبلنا إلى المدينة أن ننزل في صرار ([1]) .. فتسمع بنا زوجتك فتفرش لك النمارق ..

يعني وإن كنت تزوجت ثيباً إلا أنها لا تزال عروساً تفرح بك إذا قدمت وتبسط فراشها .. وتصف عليه الوسائد ..

فتذكر جابر فقره وفقر أخواته .. فقال : نمارق !! والله يا رسول الله ما عندنا نمارق ..

فقال e : إنه ستكون لكم نمارق إن شاء الله ..

ثم مشيا .. فأراد e أن يهب لجابر مالاً ..

فالفت إليه وقال : يا جابر ..

قال : لبيك يا رسول الله ..

فقال : أتبيعني جملك ؟

تفكر جابر فإذا جمله هو رأس ماله .. هكذا كان وهو كليل ضعيف .. فكيف وقد صار قوياً جلداً !!

لكنه رأى أنه لا مجال لرد طلب رسول الله e ..

قال جابر : سُمْه يا رسول الله .. بكم ؟

فقال e : بدرهم !!

قال جابر : درهم !! تغبنني يا رسول الله ..

فقال e : بدرهمين ..

قال : لا .. تغبنني يا رسول الله ..

فما زالا يتزايدان حتى بلغا به أربعين درهماً .. أوقية من ذهب ..

فقال جابر : نعم .. ولكن أشترط عليك أن أبقى عليه إلى المدينة ..

قال r : نعم ..

فلما وصلوا إلى المدينة .. مضى جابر إلى منزله وأنزل متاعه من على الجمل ومضى ليصلي مع النبي r وربط الجمل عند المسجد ..

فما خرج النبي r قال جابر : يا رسول الله هذا جملك ..

فقال r : يا بلال .. أعط جابراً أربعين درهماً وزده ..

فناول بلال جابراً أربعين درهماً وزاده ..

فحمل جابر المال ومضى به يقلبه بين يديه .. متفكراً في حاله !! ماذا يفعل بهذا المال ؟! أيشتري به جملاً .. أم يبتاع به متاعاً لبيته .. أم ..

وفجأة التفت رسول الله e إلى بلال وقال : يا بلال .. خذ الجمل وأعطه جابراً ..

جبذ بلال الجمل ومضى به إلى جابر .. فلما وصل به إليه .. تعجب جابر .. هل ألغيت الصفقة ؟!

قال بلال : خذ الجمل يا جابر ..

قال جابر : ما الخبر !!..

قال بلال : قد أمرني رسول الله e أن أعطيك الجمل .. والمال ..

فرجع جابر إلى رسول الله e وسأله عن الخبر .. أما تريد الجمل !!

فقال e : أتراني ماكستك لآخذ جملك ..

يعني أنا لم أكن أطالبك بخفض السعر لأجل أن آخذ الجمل وإنما لأجل أن أقدر كم أعطيك من المال معونة لك على أمورك ..

فما أرفع هذه الأخلاق .. يختار ما يناسب الشاب من أحاديث .. ثم لما أراد أن يحسن إليه ويتصدق عليه .. غلف ذلك باللطف والأدب ..

وفي أحد الأيام يجلس إلى النبي e شاب اسمه جليبيب .. من خيار شباب الصحابة .. لكنه كان فقيراً معدماً ..

وكان t في وجهه دمامة ..

جلس يوماً عند رسول الله e .. فما هي الأحاديث التي حرص النبي e على إثارتها معه ؟ شاب في ريعان شبابه .. أعزب ..

هل يتحدث معه عن أنساب العرب والرفيع منها والوضيع ؟

أم يتحدث عن الأسواق وأحكام البيوع ؟

لا .. فهذا شاب له نوع خاص من الأحاديث يفضله على غيره ..

أثار معه e موضوع الزواج والحديث حوله .. فلطالما طرب الشباب لهذه المواضيع ..

ثم عرض عليه رسول الله التزويج ..

فقال : إذن تجدني كاسداً ..

فقال : غير أنك عند الله لست بكاسد ..

فلم يزل النبي r يتحين الفرص لتزويج جليبيب ..

حتى جاء رجل من الأنصار يوماً يعرض ابنته الثيب على رسول الله r .. ليتزوجها ..

فقال r : نعم يا فلان .. زوجني ابنتك ..

قال : نعم ونعمين .. يا رسول الله ..

فقال r : إني لست أريدها لنفسي ..

قال : فلمن ؟!

قال : لجليبيب ..

قال الرجل متفاجئاً : جليبيب !! جليبيب !! يا رسول الله !! حتى استأمر أمها ..

أتى الرجل زوجته فقال : إن رسول الله يخطب ابنتك ..

قالت : نعم .. ونعمين .. زوِّج رسول الله r ..

قال : إنه ليس يريدها لنفسه ..

قالت : فلمن ؟

قال : يريدها لجليبيب ..

فتفاجأت المرأة أن تُزف ابنتها إلى رجل فقير دميم .. فقالت : حَلْقَى !! لجليبيب ..؟ لا لعمر الله لا أزوج جليبيباً .. وقد منعناها فلاناً وفلاناً ..

فاغتم أبوها لذلك .. وقام ليأتي رسول الله r ..

فصاحت الفتاة من خدرها بأبويها : من خطبني إليكما ؟

قالا : رسول الله r ..

قالت : أتردان على رسول الله r أمره ؟ ادفعاني إلى رسول الله r .. فإنه لن يضيعني ..

فكأنما جلَّت عنهما .. واطمأنّا ..

فذهب أبوها إلى النبي r فقال : يا رسول الله .. شأنك بها فزوِّجها جليبيباً ..

فزوجها النبي r جليبيباً ..

ودعا لها وقال : اللهم صب عليهما الخير صباً .. ولا تجعل عيشهما كداً كداً ..

فلم يمض على زواجه أيام .. حتى خرج النبي r في غزوة .. وخرج معه جليبيب ..

فلما انتهى القتال .. وبدأ الناس يتفقد بعضهم بعضاً ..

سألهم النبي r : هل تفقدون من أحد قالوا : نفقد فلاناً وفلاناً ..

فسكت قليلاً ثم قال : هل تفقدون من أحد ؟

قالوا : نفقد فلانا وفلانا ..

فسكت ثم قال : هل تفقدون من أحد ؟

قالوا : نفقد فلاناً وفلاناً ..

قال : ولكني أفقد جليبيباً ..

فقاموا يبحثون عنه .. ويطلبونه في القتلى .. فلم يجدوه في ساحة القتال ..

ثم وجدوه في مكان قريب .. إلى جنب سبعة من المشركين قد قتلهم ثم قتلوه ..

فوقف النبي r ينظر إلى جثته .. ثم قال : قتل سبعة ثم قتلوه .. قتل سبعة ثم قتلوه .. هذا مني وأنا منه ..

ثم حمله رسول الله r على ساعديه .. وأمرهم أم يحفروا له قبره ..

قال أنس : فمكثنا نحفر القبر .. وجليبيب ماله سرير غير ساعدي رسول الله r ..

حتى حفر له ثم وضعه في لحده ..

قال أنس : فوالله ما كان في الأنصار أيم أنفق منها ..

أي تسابق الرجال إليها كلهم يخطبها بعد جليبيب ..

هكذا كان e يختار لكل أحد ما يناسبه من أحاديث .. حتى لا تمل مجالسه ..

جلس e يوماً مع زوجه عائشة ..

فما الأحاديث المناسب إثارتها بين الزوجين ..؟

هل كلمها عن غزو الروم ؟ ونوع الأسلحة التي استخدمت في القتال ؟ كلا فليست هي أبو بكر !!

أم حدثها عن فقر بعض المسلمين وحاجتهم ؟ كلا فليست عثمان !!

إنما قال لها بعاطفة الزوجية : إني لأعرف إن كانت راضية عني .. وإذا كنت غضبى .. !!

قالت : كيف ؟

قال : إذا كنت راضية قلت : لا ورب محمد ( e ) .. وإذا كنت غضبى قلت : لا ورب إبراهيم ( e ) ..

فقالت : نعم .. والله يا رسول الله لا أهجر إلا اسمك ..

فهل نراعي هذا نحن اليوم ؟

وجهة نظر ..

تحدث مع الناس بما يستمتعون هم باستماعه .. لا بما تستمتع أنت بحكايته ..




( [1] ) موضع على بعد 5كم من المدينة

0 تعليقات:

إرسال تعليق

المتابعون

Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites More

 
Free Web Hosting